متى يكون العفو قوة؟
![](https://mugtama.com/storage/uploads/kRRGNiRr1ocFVHOCfZmI1ePzoSdbSZF6S7OSqK4Z.jpg)
يرى بعض الناس أن العفو دليل على الضعف، حيث يتنازل الإنسان عن حقه ويستغني عنه، فيترك المطالبة به، ولا يجد في نفسه حرصا على أخذه. وهذا في الحقيقة قد يكون ضعفا، إذا كان الإنسان لا يملك القدرة على أن يأخذ هذا الحق، أما إذا امتلكها ولم يأخذ حقه فهذا غير ضعيف.
ويكون العفو عن الناس قوة لصاحبه في المواقف الآتية:
1- عند المقدرة
عرّف العلماء العفو بأنه: كف الضرر مع القدرة عليه (1).
فلا يكون العفو عفوا وصاحبه لا يقدر على العقوبة، بل العفو يكون عند المقدرة. فمن فعل ذلك فقد تخلق بأخلاق الله تعالى، فالله هو القوي وهو العفو، قال تعالى: (إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء: 149).
ويجسد الرسول، صلى الله عليه وسلم، معنى العفو عند المقدرة في العديد من المواقف، منها ما كان يوم فتح مكة، حيث استطاع أن يدخل مكة، وينتصر على أهلها، وفي هذه الظروف التي ظهرت فيها قوته استعرض المشركون ما كان منهم من أذى له صلى الله عليه وسلم، وتيقنوا أن نتيجة ذاك الأذى ستظهر في هذا الموقف تعذيبا لهم وتنكيلا بهم، فذهبوا إليه وهم يتساءلون ويستعطفون، حيث وقفوا أمامه، فرأى حالهم، وقال لهم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ» (2). وهنا يتبين أن عفوه عنهم لم يكن ضعفا منه، بل قوة. أدت إلى إسلام العديد منهم.
2- عندما تكون الثمرة أكبر من العقوبة
قد يملك الإنسان المقدرة على أخذ حقه، لكنه لو عفا فسيجد ثمرة أكبر، ونتيجة أجمل، وهنا يبادر الإنسان بالعفو، سعيا إلى الكمال وطلبا للجمال. فالعافي أجره على الله، قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40)، والعفو بابٌ للفوز بالجنة، حيث أوضح الحق سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة: العفو عن الناس، فقال عز وجل: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:133-134).
وروى أبوداود والترمذي، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ».
فحين يكون الأجر عظيما والثواب جزيلا؛ فإن المسلم يبادر إليه طمعا في الثواب وحسن المآب.
3- عندما يكون العفو في صالح فاعله
يكون العفو قوة لصاحبه حين يحقق مصلحته. وتتحقق هذه المصلحة من نواح متعددة، فمن الناحية النفسية: يتحرر العافي عن الناس من مشاعر الغضب والكراهية والرغبة في الانتقام، وهذا يؤدي إلى اطمئنان النفس وسلامة القلب. كما يحقق العفو مصلحة فاعله حين يفتح باب الوصال مع الناس بدلا من الخصام، وحين يكون سببا في جمع شمل الأسرة بدلا من الطلاق، بل حين يجلب للعافي المغفرة من الله سبحانه وتعالى وقبول الأعمال الصالحة، فحينئذ يكون المسلم قويا بعفوه ليحقق القبول والمغفرة. ويدل على هذا ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».
وروى ابن حبان في صحيحه عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قَالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَاّ لِمُشْرِكٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ". فإذا كان الظالم أو المعتدي لا يستحق العفو؛ فإن المسلم يستحق المغفرة والقبول، ومن ثم فإنه يبادر إلى العفو.
4- عندما يكون العفو أخف الأضرار
من القواعد التي استقرت عليها الأمة الإسلامية أن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. (3). وأن المسلم يختار أهون الشرين، فإذا اجتمع مكروهان أو ضرران ولم يمكن الخروج عنهما وجب ارتكاب أخفهما. (4).
ونحن إذ نقرر هذا فإننا نؤكد أن العفو ليس ضررا، لكنه قد يظهر في صورة ضعف فاعله أمام الناس، لكنه يكون فعلا قويا حين يدفع به ضررا أعظم منه.
كما أن الانتقام قد يؤدي إلى مزيد من المشكلات، بينما العفو قد يكون خطوة نحو الصلح وإنهاء الخلافات بطريقة أكثر نضجًا.
كما أن العفو يكون مصدر قوة لصاحبه حين يتخلص به من السماح للآخرين بإهانته مرارا وتكرارا إذا أخذ حقه أو أوقع العقوبة المطلوبة.
(1) الكليات: للكفوي، ص: 53.
(2) السيرة النبوية: لابن هشام، (2/ 412).
(3) الأشباه والنظائر: لابن نجيم، ص: 88.
(4) القواعد الفقهية: للزحيلي، (1/ 266).