02 فبراير 2025

|

الشهامة الإنسانية في زمن الآلة والجمود

الشهامة، والمروءة، والكرم، وتقديم العون لمن يحتاج إليه، كلها مرادفات لخلق المسلم اليومي، كما كان هو خلق الأنبياء من قبل ومن سار على نهجهم من البشر، وقد كان العرب قبل الإسلام يتفاخرون فيما بينهم بخلق الشهامة والمروءة وإغاثة الملهوف. 

ولقد حكى التاريخ عن أصحاب الشهامة، فمجدهم وخلد ذكراهم، ويذكر القرآن قصة شهامة موسى عليه السلام مع الفتاتين بعد هروبه من انتقام فرعون مهاجراً لأرض بعيدة، فلم يمنعه تعبه وهجرته وشتات فكره وهو بغير أهل أو صحبة، يقول تعالى عن مروءة موسى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص).

وظل العرب يمجدون مروءة حاتم الطائي حتى صار يضرب به المثل في الكرم فيقال: أكرم من حاتم! وغيره داخل إطار الثقافة العربية بالشهامة والمروءة والكرم كثيرين.

الشهامة والمروءة عند النبي

وكما أن الشهامة كانت عند رسل الله أجمعين واجبة وواضحة، فكانت عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم أوجب وأكثر وضوحاً، فعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتاً، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: «لم تراعوا، لم تراعوا»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وجدته بحراً»؛ يعني الفرس. (رواه البخاري، ومسلم).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر في الدنيا يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (أخرجه مسلم)، فتفريج الكروب وتنفيس الكربات أعلى درجات الشهامة والمروءة عند الرجال.

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما يبذلونها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم» (أخرجه الطبراني)، وقال أبو حامد الغزالي: أما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة، وكسر النفس والاحتمال والحلم، والثبات وكظم الغيظ، والوقار والتودد، وأمثالها، وهي أخلاق محمودة(1).

مظاهر وصور الشهامة

تتعدد صور الشهامة خاصة في زماننا، حيث الزمن الذي ازداد فيه الفقر، وكثرت فيه المطلقات والأرامل وهن من ذوي الحاجات والأبناء، فأصبح لزاماً على كل مجتمع أن يتكفل بمن فيه من المحتاجين بشهامة ومروءة وأخلاق، وإلا فالعواقب المجتمعية والأخلاقية وخيمة على الجميع، وقد خربت الذمم في أروقة العولمة ومنصات التواصل الاجتماعي وغياب الدور التربوي الأسرة ودور المسجد والمدرسة والجامعة، ومن أهم مظاهر الشهامة المجتمعية بين المسلمين:

1- أن يحرص المسلم على نفع إخوانه ودفع الشر عنهم. 

2- إمهال المعسر عن سداد الدَّيْن إذا كان عاجزاً عن سداده في الوقت الراهن، بل والتجاوز عنه إن كانت ظروفه المادية أقل من أن يستطيع السداد مستقبلاً، وتضافر الجهود المجتمعية لسداد دين المدينين إذا تعسروا في السداد، وإنقاذ الغارمات، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار». 

3- رد الحقوق لأصحابها، فعلى المقترض أن يحسن السداد، ومن يحفظ أمانة أحد ألا ينكرها.

4- رد لهفة المظلوم، وعدم تركها للظالمين يواجه مصيره وحده، فحين يجتمع الناس لمنع الظلم، يكون من الصعب تكراره. 

5- تحسس أحوال الأهل والجيران خاصة الفقراء والمحتاجين منهم، فالظروف الاقتصادية ببلادنا صارت سيئة للغاية، والمتعففون ما أكثر، فليراعِ المسلم إذا كان مقتدراً جيرانه وأقرباءه ولا ينتظر من يسأله.

6- ومن الشهامة الصفح عند المقدرة، فلست شهماً حين تكون قادراً على إنفاذ انتقامك ممن ظلمك فيما يمكن التجاوز عنه، ثم أنت تصب عليه جام غضبك، حليماً، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (أخرجه مسلم).

سبل اكتساب الشهامة 

قد يقول قائل: كيف يمكن اكتساب أخلاق الشهامة والمروءة والكرم، وهي صفات يولد بها الإنسان ملازمة لشخصيته، فكأن البخيل قد ولد بخيلاً، والكريم ولد كريماً.. والحقيقة أن ذلك الرأي فيه نسبة كبيرة من الصحة، فبعض الأخلاقيات والصفات يولد بها الإنسان، لكن الإسلام أتى ليقوّم الإنسان ذاته، ويقوّم شح نفسه، ويعالج مواطن القصور بها، وليس أكثر من صفات الجاهلية التي كانت متأصلة في قريش، الذين خرج منهم أمثال خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وغيرهما ممن كان لهم الفضل في الفتوحات الإسلامية العظيمة وإعلاء كلمة الله عز وجل. 

فبالرغم من أن هناك جملة من الأخلاق تولد مع الإنسان لصيقة به فتجده رجلاً رغم صغر سنه، إلا أن الله عز وجل جعل لعباده القدرة على تغيير أنفسهم وذلك هو مناط تكليفهم، وهناك سبل لاكتساب كل خلق، وجميع تلك السبل متشابهة، فجملة الأخلاق الإسلامية سبيلها واحد وتعتمد جميعها على الإيمان العميق، والتدريب لإجبار النفس كي يكون الخلق عادة، ومصاحبة الصالحين الذين يعينون الصاحب على العمل والتحلي بكل ما هو خير. 

ومن وسائل اكتساب خلق الشهامة:

1- توثيق عرى الإيمان بالله ، فالإيمان الراسخ الصادق يمثل حماية لقلب صاحبه من السقوط في براثن سوء الخلق مع الناس والتخلي عنهم.

2- إلزام النفس بالصبر والبعد عن الجزع، يقول الراغب الأصفهاني: الصبر يزيل الجزع، ويورث الشهامة المختصة بالرجولية(2).

3- علو الهمة، والارتقاء بالنفس.

4- مصاحبة ذوي المروء والشهامة وحسن الخلق والدافعين للخير والتعلم منهم.

5- الإيمان بالقدر خيره وشره، فالمؤمن بأن كل ما يجري عليه مقدر من الله عز وجل.

 

 

 

 

 

______________________

(1) إحياء علوم الدين (3/ 54).

(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 115.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة