02 فبراير 2025

|

قطع الولاء وتمييز الأعداء

أحمد بيومي

02 فبراير 2025

34

 

في ظل الصراع الدائر في منطقتنا العربية والإسلامية يظهر تخبطٌ عند الكثيرين في التفريق بين الأعداء، بل حتى تمييزهم من الحلفاء، وغالبا ما يكون ذلك نتاج تضارب الأجنادات الإعلامية المهيمنة على المشهد وانعكاس ذلك على الجمهور المسلم المتابع للخطاب الشرعي المضلل أو العاطفي المسيس، فيقع التلبيس وتنحرف البوصلة، لذا نسلط الضوء في هذه المقالة على نقاط شرعية تُبصّرُ المسلم بوجهته الصحيح في مسألة الولاء والعداء، فنقول وبالله التوفيق: 

أولًا: أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله، كما جاء عن رسول الله ﷺ، وفي رواية قال: الموالاة في الله والمعاداة في الله[1]. فهو أمر لازم للإيمان وعلامة عليه لقوله ﷺ: من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله ‌فقد ‌استكمل الإيمان[2]

وهذا يقتضي قيام رابطة الولاية مع المؤمنين بالله لقوله تعالى: ﴿ ‌وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡض ﴾ [التوبة: 71]، أي أن قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف، وقال ﷺ: المسلم ‌أخو ‌المسلم، قال: ‌المؤمن ‌أخو ‌المؤمن، وقال: إن ‌المؤمن ‌للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وقال: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد[3]. وحد لتلك الولاية حدودًا وحقوقًا وواجبات استوعبتها كتب الفقه.

وكذلك يقتضي انقطاعها مع الكافرين المكذبين لله ولو كانوا أقرب الأقربين، وتنقطع معها ولاية النكاح والتوارث وغير ذلك من الأحكام الفقهية المترتبة على ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمۡ وَإِخۡوَٰنَكُمۡ أَوۡلِيَآءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ [التوبة: 23] فقطع الموالاة بينهم - ولا قربى أقرب من الأبناء والأباء - ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الديار الأبدان[4].

وضرب لنا مثلا وجعل لنا أسوة نقتدي بها في نبي الله إبراهيم ﷺ فقال: ﴿ قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَة فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ ﴾ [الممتحنة: 4]، وهو حكمٌ مطرد تعبد الله به عباده المؤمنين في كل ملة، وفي كل حالة ماداموا على الكفر فإذا آمنوا بالله وحده تنقلب المعاداة مودة[5]. قال تعالى: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ ‌عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّة وَٱللَّهُ قَدِير وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِيم﴾ [الممتحنة: 7].

وكذلك قوله: ﴿ ‌لَّا ‌تَجِدُ ‌قَوۡما يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ ﴾ [المجادلة: 22]، فإن موادة وملاطفة من عادى الله ورسوله من عموم أهل الكفر أو أهل الحرب على الخصوص قادح في الإيمان، فلا تجتمع موادة الكافر العملية فضلا على القلبية وكمال الإيمان وحقيقته في القلب ولو كان من أقرب الأقربين[6].

بل إن مولاة الكافرين - من دون المؤمنين - من أخص علامات النفاق، لذلك جاء النهي والوعيد الأكيد في كثير من الآي على اتخاذهم حلفاء ينصرهم ويظاهرهم على إخوانه في الدين، فقال تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنا مُّبِينًا ﴾ [النساء: 144-145]، وقال تعالى: ﴿ ‌لَّا ‌يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ‌فَلَيۡسَ ‌مِنَ ‌ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ ﴾ [آل عمران: 28]، وقوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ ﴾ [المائدة: 51]، ففيها براءة الله ورسوله من ولاية من يفعل ذلك، وإيذان باعتباره في جملة الكافرين على قدر حظه من موالاته لهم في النصرة والمعاضدة؛ فإن الكافرين بعضهم لبعض أولياء، كما أن المؤمنون بعضهم أولياء بعض.

وقد أخبر الله عن منافقي المدينة الذين تولوا يهودها بعدما ظهر عداءهم للمؤمنين، فأصروا على ذلك وقالوا لا ندع حلفاءنا وموالينا نخشى أن تصيبنا دائرة، فقال: ﴿ ‌أَلَمۡ ‌تَرَ ‌إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ ﴾ [المجادلة: 14]، وقال تعالى: ﴿ ‌أَلَمۡ ‌تَرَ ‌إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخۡوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَئِنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمۡ أَحَدًا أَبَدا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11].

تنبيه: الإسلام يجيز تحالف النصرة مع الكافر لكن ليس على أولياء الدين، وقد كان يهود المدينة حلفاء النبي ﷺ قبل يظهروا عداءهم وينبذوا عهدهم، فاختار مؤمنو الأنصار الله ورسوله على ولاية يهود وبقي المنافقون على حلفهم لليهود. 

ثانيًا: ثم إن لهذا الولاء بين المؤمنين واجب من الحب والنصرة والمظاهرة، فالمؤمنون بعضهم أنصار بعض على من سواهم، وقد جاء في ذلك عن رسول الله ﷺ: المؤمنون تكافأ دماؤهم، ‌وهم ‌يد ‌على من سواهم[7]. ويتفاوت هذا الواجب للمؤمن بتفاوت تحققه بالإيمان، قال تعالى: ﴿ ‌إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ ۝ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ﴾ [المائدة: 55-56]، ومن كان فيه إيمان وفجور، أو طاعة ومعصية، أو سنة وبدعة أعطي من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره، واستحق من الثواب بقدر ما فيه من الخير ومن العقاب ‌بحسب ما فيه من الشر، - كما ذكر ابن تيمية - فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة[8].

ولا يخرجه فجوره وبغيه عن أصل الولاء وأخوة الدين، لذلك قال الله تعالى: ﴿ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ ‌مِنۡ ‌أَخِيهِ شَيۡء ﴾ [البقرة: 178]، فجعله أخًا وهو قاتل يجب في حقه القصاص، وكذلك اقتتال الطائفتين مع بغي إحداهما على الأخرى؛ والشهادة لهما بالإيمان والأخوة، فقال: ﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَة فَأَصۡلِحُواْ ‌بَيۡنَ ‌أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10][9].

وكمال الإيمان يقتضي كمال الموالاة وكمال النصرة، لذا قال الله في صنف من المؤمنين آثروا البقاء بمكة ولم يهاجروا فخصم ذلك من حق الولاء لهم، فتكون نصرتهم ليست مطلقة وإنما تقيد بأن تكون على قوم ليس لهم مع المسلمين عهد ولا ميثاق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡض وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ ‌حَتَّىٰ ‌يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰق ﴾ [الأنفال: 72].

ومن كان فيه بغي أو بدعة نقصت من الولاء له بقدر مخالفته، والبدعة الاعتقادية تتفاوت بتفاوت المقالة ومخالفتها للأصول العظيمة أو الفروع الدقيقة، ويختلف التعامل مع أصحابها باختلاف أحوالهم، وقد يهجر أصاحبها الداعين لها إنكارًا عليهم أو يعاقبون أو يقاتلون حتى رجاء رجوعهم عنها[10]. ولهم مع البغي والخروج عن حد السنة حقوق لا يشابهون بها أهل الحرب من الكفار لأن معهم أصل الإيمان والولاية، فلا يُستعان على قتالهم بالكفار بحال على قول الجمهور بل القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم، ولقول الله تعالى: ﴿‌وَلَن ‌يَجۡعَلَ ‌ٱللَّهُ ‌لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]. وحتى خوارج الرأي إلم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام فلا يحل قتلهم ولا قتالهم على قول الجمهور، واحتجوا بفعل علي رضي الله عنه، فإنه روي عنه، أنه قال لهم أول الأمر: لكم علينا ثلاث؛ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفىء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال[11].وتفصيل ذلك في كتب الفروع.

ثالثًا: ومع قطع الولاء للكافرين يكون التبري منهم ومن عبادتهم، وكذا العداء لهم، فإن البراءة والعداوة ضد الولاية، وأصل الولاية الحب، وأصل البراءة والعداوة البغض، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا الله ويحب ما يحبه الله لله، فلا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله[12]. كما قال إمام الحنفاء إبراهيم لقومه: ﴿ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ ﴾ [الممتحنة: 4]، وكذا قوله: ﴿ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي ‌بَرَآء ‌مِّمَّا ‌تَعۡبُدُونَ ۝ إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَة فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 26-28]، أي جعل هذه الموالاة لله، والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض وهي كلمة: لا إله إلا الله، وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة[13].

تنبيه: البراء والعداء القلبي عام لأهل الكفر: ﴿ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ ‌كَانُواْ ‌لَكُمۡ عَدُوّا مُّبِينا ﴾ [النساء: 101]، ويثبت على الخصوص لمن استحب الكفر على الإيمان وحاد الله ورسوله وتبين عداؤه، لذا قال الله تعالى في سيد الحنفاء: ﴿ فَلَمَّا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُۥٓ ‌أَنَّهُۥ عَدُوّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم ﴾ [التوبة: 114]، وذلك لما أصر على الكفر ومات عليه، وقال في شأن حب رسول الله ﷺ عمه المشرك الذي كان يرجو هدايته لآخر لحظاته: ﴿ إِنَّكَ ‌لَا ‌تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ ﴾ [القصص: 56].

رابعًا: وكما أن الولاء يتفاضل بتفاضل موجباته، فالعداء كذلك يتفاوت بتفاوت أسبابه، فالكفر ليس على درجة واحدة وإنما يزداد ويتغلظ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ‌ٱزۡدَادُواْ كُفۡرا ﴾ [آل عمران: 90]، فإن مقالة النصارى أغلظ من مقالة اليهود، كما قال الجصاص: ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادًا من مقالة اليهود، لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة[14]. لذلك يُقبل في الشريعة من أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب ما لا يُقبل من غيرهم على قول الجمهور، ومحل ذلك كتب الفروع.

وكذلك الكفر يتغلظ بجرائمه وبغيه، لذا جاء القرآن بالتحضيض والتأكيد في مواضع عدة على مبادلة هذا التكذيب والعناد والبغي بقطع الولاء معهم ابتداء، كقوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ ﴾ [الممتحنة: 1]، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوا وَلَعِبا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ ﴾ [المائدة: 57]، وقوله: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌لَا ‌تَتَّخِذُواْ بِطَانَة مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ ﴾ [آل عمران: 118]، وغير ذلك من مواضع التذكير في كتاب الله بأفعالهم والتحريض على بمبادلتهم ذلك بالغلظة عليهم وإخراجهم وقتالهم، ويكون قتالهم لأجل بغيهم لا كفرهم كما هو قول الجمهور، كأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم، واختار بعضهم القتال لكفرهم وهو قول الشافعي، وربما علل به بعض أصحاب أحمد، وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والإعتبار كما فصل في ذلك ابن تيمية[15].

والكفر قد يخف بمواقف أهله، كحال أبي طالب ونصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما جاء عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله فهل نفعتَ أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار[16].

وما سوي أهل البغي من فالأمر بالبر والصلة لهم عام، لقول الله تعالى: ﴿‌لَّا ‌يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ۝ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8-9]، وخاصة أهل الحقوق كالأبوين والأقربين، كقوله تعالى: ﴿ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفاۖ ﴾ [لقمان: 15]، وكقول النبي ﷺ لأسماء بنت أبي بكر وقد قدمت عليها أمها وهي مشركة راغبة، فقالت: أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك، وكقوله ﷺ: إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ‌ولكن ‌لهم ‌رحم ‌أبلها ‌ببلالها، يعني: أصلها بصلتها[17]. وغير ذلك من الأثار التي ذخر بها الهدى في تألف قلوبهم والإحسان لهم رجاء هدايتهم.

خامسًا: بمجموع ما سلف تُقّدر عداوة الأعداء، فلن يكونوا في مفردات ذلك سواء، لذا قال الله تعالى: ﴿ ‌لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ ‌وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ﴾ [المائدة: 82].

وتطبيق ذلك من كلام ابن عطية ننقله بطوله حيث يقول: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي ﷺ سُرّ حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا، ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين.

وفي قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد ﷺ من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ ‌قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82] معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة. ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله[18].

ختامًا: هكذا يميّز بين الأعداء من جهة الاعتقاد والسلوك الذي يتفاوت الكافرون فيهما، فأما أصحاب الأهواء ممن لا يتبع ميزانًا شرعيًا ولا قاعدة مطردة فإنه يميز الأعداء حسب المصالح الشخصية وإملاءات أجهزة المخابرات، فتجده يتعسف في المقارنة بين الرافضة واليهود، ويدفعه الشنآن أن يُحمّل الرافضة كل نقيصة، ويضعهم في منزلة من العقيدة والفساد كاليهود بل أحط!  

فلا الرافضة في غلوهم كاليهود في كفرهم، فكل من كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو ‌خيرٌ من كل من كفر به؛ - كما أجاب ابن تيمية - وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن ‌اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول لا مخالف له لم يكن كافرا به؛ ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول[19].

ولا الرافضة في فجورهم وبغيهم وخطرهم كاليهود في فسادهم وتهديدهم، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ ‌لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ ‌﴾ [المائدة: 82]، وقال فيهم: ﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌لَمُسۡرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32]، وقال فيهم: ﴿ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ ‌وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَاداۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]، وقال فيهم: ﴿ وَلَا تَزَالُ ‌تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَة مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلا مِّنۡهُمۡۖ ﴾ [المائدة: 13]. 

ثم إن الاجترار الدائم لتاريخ الخلاف مع الرافضة ووضع طوائفهم جميعًا في سلة واحدة نصيرية واثني عشرية وزيدية بلا تفريق عقدي بينهم، مع تضخيم جرائمهم في الساحة الشامية وغض الطرف عن نصرتهم للمقاومة والتسفيه من جهودهم يُنبئ عن سوء طوية، وهو حيلة صهيونية لصرف أنظار البسطاء عن الخطر الأكبر لليهود، وتمرير مشروعهم المدعوم غربيًا، وفي ذلك الفساد العريض.

 

 

 

 

 

___________________________
 

[1]  انظر مسند أحمد رقم: 18524، وانظر المعجم الكبير للطبراني رقم: 11537

[2]  انظر سنن أبي داود رقم: 4681

[3]  انظر صحيح البخاري رقم: 2442، 481، 6011، وانظر صحيح مسلم رقم: 56 - (1414).

[4]  انظر أحكام القرآن لابن العربي و وانظر تفسير ابن عطية والقرطبي للآية.

[5]  انظر أحكام القرآن للجصاص، وانظر تفسير ابن عطية والقرطبي للآية.

[6]  انظر أحكام القرآن للجصاص، وانظر تفسير الطبري وابن عطية للآية.

[7]  انظر سنن أبي داود رقم: 4530

[8]  انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 228)، (28/ 209)

[9]  انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 92)

[10]  انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 175)، (12/ 501)، (3/ 348)

[11]  انظر المغني لابن قدامة (12/ 247)، (12/ 247)، وانظر نهاية المطلب في دراية المذهب للجويني (17/154)

[12]  انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 465)، وانظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (5/ 352)

[13]  انظر الداء والدواء لابن القيم (ص195)، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 128)

[14]  انظر أحكام القرآن للجصاص (4/ 109)

[15]   انظر قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم لابن تيمية (87-90)

[16]  انظر صحيح البخاري رقم: 6208، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 144)

[17]  انظر صحيح البخاري رقم: 2620، 5990

[18]  انظر تفسير ابن عطية للآية.

[19]  انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/ 201)


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة