العقم الدعوي أثر لجمود الداعية

عامر شماخ

14 أغسطس 2023

5049

في الواقع أن مشكلة جمود الداعية تتمثل في غياب الخطط والإستراتيجيات، والاستمساك بالقديم، والنفور –من ثَمَّ- من الجديد، وقد جهل بعضُهم ما أحدثته ثورة المعلومات التي قلبت الموازين وغيَّرت المفاهيم، وأوجدت طرقًا عصرية للدعوة، وإن غياب هذه الطرق لدى الأفراد والجماعات الدعوية أقعدهم عن إفادة المدعوين، كما أفقدهم الروافد والأنصار، فوقع ما يُعرف بـ«الانسداد الدعوي».

فقه الأولويات

وآفة البعض في ترتيب الأولويات، فلم يبدأ بما بدأ به المعصوم ﷺ وصحابته الميامين ومن بعدهم السلف الكريم، إنما وضع لنفسه أنموذجًا خاصًّا ظن أنه يوصِّل إلى الغاية نفسها، وهذا زهوٌ منهيٌّ عنه، وإقدام في غير محله، وأساس على أرض هشّة، أما مقولة «هم رجالٌ ونحن رجال» فهذا ضربٌ من الانتفاخ الكاذب؛ ذلك أن دعوة الله واضحةٌ معالمها، معبدةٌ طرقها لمن سلكها المسلك الصحيح ولم يأتها من دروب غير مأهولة.

لقد قدَّم الله -تعالى- الفهم على العبادة، في قوله تعالى: (فاعْلمْ أنّهُ لا إلهَ إلا اللهُ واسْتَغفرْ لِذَنبكِ..) [محمد: 19]، وهذا مدار الإسلام كله؛ فالعالم -الحق- أشد على الشيطان من ألف عابد، والفقيه أرفع درجة وأعلى كعبًا من حافظ النصوص ولا يدري ما فيها، وإن انحسار بعض الدعاة في جانب دون آخر من جوانب الشرع لهو حبسٌ للإسلام نفسه، بالتقوقع داخل أنماط وقوالب نصية لا روح فيها، لا تناسب العامة ولا تنقلهم من الدهماء إلى الصفوة، بل تضع الحاجز بعد الآخر حتى يبدو الدين في نظر العوام كأنه ألغاز وأساطير.

واجباتُ داعية اليوم

عليه؛ من التكاليف المفروضة على داعية اليوم؛ أن يحقق في نفسه قاعدة: «رحم الله رجلًا عرف زمانه فاستقامت طريقته»، فوجب أن يكون ملمًّا بالمستجدات، ماهرًا في وسائل ووسائط الدعوة الحديثة التي أزالت الحواجز وقرَّبت المسافات وأتاحت ما لم يكن متاحًا من قبل، وقد نقلت هذه الوسائل الدعوة من المساجد إلى رحاب المعمورة، فليس من المنطقي أن يسوِّق الجميع لدينه ومذهبه ولا يزال داعية الإسلام رهين الوسائل التقليدية التي ربما انفضّ عنها المدعوون أو زهدوا فيها.

كما على داعية اليوم أن يكون حازمًا في رأيه، واضحًا في اختياراته، من دون «ميوعة» أو تردد، بعدما كثر المتهتكون الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، وهذا يقتضي الإخلاص والزهد، والجرأة بالحق، وأن يستعلي بإيمانه وما وقر في قلبه على من يريدون أن يطفئوا نور الله.

التجديدُ ضرورةٌ شرعيةٌ

إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».. هذا حديث صحيح يؤكد أن «التجديد» في الدين ضرورة شرعية، وحاجة دعوية، وضمانة لحفظ هذا الدين من التبديل والتحريف كما وقع للأديان السابقة، وقد حصر بعض علمائنا –بالفعل- مجددي القرون المتعاقبة؛ الذين كان لهم الفضل في إنهاض أبناء هذا الدين من كبواتهم، والتجديد في وسائل نشر دعوته، وفي فهم نصوص الكتاب والسنة، وفي اكتشاف العلل التي خفيت على من قبلنا.

والتجديد متاح في كل وقت وفي أي مكان -لكن بشروطه؛ ومنها ألا يطال الأمور التوقيفية أو القطعية التي لا خلاف فيها، وأن يكون بغرض التيسير على المسلمين وفتح الطريق أمامهم لتمتين الأخلاق وتأسيس الحضارة، ومدّ حبال التواصل مع «الآخر»، وإظهار محاسن الدين، وعفو الله ورحمته،  فما خُيِّرَ رسولُ الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وقد ورد عنه ﷺ: «يسروا ولا تعسروا، وبشّروا ولا تنفروا»، «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم».

الداعيةُ القدوة

ومن المفترض في الداعية لكسر حلقة الجمود وتفادي العقم الدعوي؛ أن يكون أولًا وقبل كل شيء قدوة في أخلاقه وسلوكه، يؤتم به في القول والعمل، له دوره الفاعل في الذبِّ عن الدين وحماية ثغوره، لا يغفل لحظة عن تفقد جهاته ومراجعة تحصيناته، منتظرًا الأجر من الله كما جاء في آيات وأحاديث شتى؛ «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس»، «من تمسّك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد».

والداعية أبعد الناس عن اليأس والقنوط، بل هو روح لبث الأمل في نفوس الحيارى والمحبطين، وقطع الطريق على كل محاولة للتواكل والقعود؛ بأن يكون هو أولًا معبأ بهذا الأمل، شكلًا ومضمونًا لا رياء وتصنّعًا، وهذا لا بد له من يقين قلبي ووقود شعوري، واطلاع عميق في سير الأنبياء والصالحين وما كوفئوا به على اصطبارهم ورباطهم دون أن يتطرق إليهم شك أو يصيبهم جزع؛ لعلمهم أن العقبى للمتقين وأن ما مسّ طائفة منهم من يأس كان من الشيطان الذي أعجلهم بأمانيه الكاذبة فصدقوه، ثم فاؤوا إلى ربهم فكان لهم الجزاء الحسن والنصر المبين.

وبمثل هؤلاء تنتصر الدعوات، وتنصلح الأحوال، ويظل أهل الحق شوكة في حلوق الظالمين، ومصدر إيلام وغيظ للمجرمين، وهم المقصودون في الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23]، المذكورون في حديث النبي ﷺ: « لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة». وإن آثار هؤلاء الكبار تدل عليهم، وقد أعطوا للشباب المثل والأسوة في الصبر والرباط، وهي أمثلة عملية واقعية، ولولاهم لانتقض الكثيرُ من عُرى الدين، فهم صمّام الأمان، والحجر الذي لا يلين، والنصل الذي لا ينكسر، والمرجعية والخبرة، وبهم تتحقق معاني: الأُخوة والنصرة والبر والتقوى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة