مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..

المثنى بن حارثة.. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام

محرر أعلام

23 مارس 2025

635

 

من الصعب أن تجد خوَّارا منبطحا جبانا، يتحول فجأة لكريم عزيز مقدام شجاع، إلا في حدود ضيقة جدا واستثنائية، فالصفات الإنسانية لازمة للإنسان كجزء من تكوينه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله، مَنْ أكرمُ النَّاس؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ»، فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نسألُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابنُ نَبِيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خليلِ اللهِ»، قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نسألُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلوني؟ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الْإِسْلَامِ إِذَا فقُهُوا» (متفق عليه)، فمن كان شجاعا في جاهليته، فهو مقدام في الإسلام، غير أنه وجه شجاعته للحق، والصادق في الجاهلية، هو صادق في الإسلام، غير أن نيته خالصة لله، والكريم في الجاهلية، هو خير منفق في الإسلام، بضوابط الدين، فلا هو بالمسرف، ولا هو بالمقتر، وبالرجوع للتاريخ الإسلامي نجد أن الصفات الذاتية للصحابة رضوان الله عليهم، هي نفس صفاتهم بعد الإسلام، غير أن الدين هذبها، ووجهها، وجعل لها نية وغاية

 

وقد كان المثنى بن حارثة من أشراف قبيلته، ومن قادتها العسكريين، بل من أهم قادتها العسكريين على الإطلاق، وقد كان مقداما قويا داهية في التخطيط، لينتقل إلى الإسلام بتلك القوة، وذلك العقل والحكمة، ليكون من أهم أسباب توسع الدولة الإسلامية والقضاء على عروش الفرس والروم

 

المثنى بن حارثة وقصة إسلامه:

 

هو "المثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم صحابي جليل، من كبار قادة المسلمين الفاتحين، ساهم في حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، واستطاع أن يقضي على ردة أهل البحرين، ثم تقدم إلى القطيف وهجر، ووصل إلى نهري دجلة والفرات؛ وأخذ يغير على بلاد فارس"(1)، كانت قصة إسلامه كالآلاف من العرب الذين أتوا للمدينة في وفود كبيرة مع قبائلهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان إسلامهم، وقد أتى إلى المدينة مع وفد من قومه في السنة التاسعة من الهجرة(2)، والباحث في تاريخ المثنى بن حارثة الشيباني يجد بطولات خارقة، قد يصعب تصديقها في عصرنا هذا لولا المصادر الصحيحة التي ذكرتها، فقد استبسل في حروب الردة، وقضى على الفتنة في البحرين، وحين خمدت نيرانها، توجه لمحاربة الفرس، ليكون أول قائد من قادة المسلمين مواجهة لهم، بعد أن كان حليفا معهم، ومن أبرز المعارك التي ساهمت في تغيير وجهة التاريخ، ووضع حجر الأساس للدولة الإسلامية مترامية الأطراف، كانت معركة البويب، والتي دارت أحداثها في شهر رمضان المعظم، وسوف نكتفي من تاريخ القائد الفذ "المثنى بن حارثة" بهذه اللقطة الرمضانية الفريدة، فلنقرأ ونعتبر ونتعلم

 

معركة البويب:

 

بعض الأحداث قد تكون قوية حين وقوعها، لكنها لا تؤثر في مسار الأحداث عموما، وبعضها قد يكون متكررا، لكنه يغير مجرى التاريخ كله، فماذا إذا اجتمع عليها أنها قوية، وأنها بطولات متعددة قصمت ظهر الأعداء وقضت عليهم، فحتما هي ستغير وجه التاريخ ومساره، ففي شهر رمضان، السنة الرابعة عشرة من الهجرة، جرت أحداث تلك الموقعة بعد هزيمة المسلمين فيما يعرف بموقعة الجسر، لتكون بداية فتح عظيم، يكمله رجال عظماء، لم يتكرروا في التاريخ حتى اليوم، ومن عظمة تلك المعركة، أنها سميت بيوم الأعشار، يقول عنها ابن كثير: "لقد أحصي أن 100 مقاتل مسلم قتل كل واحد منهم 10 من الأعداء"(3)، فبعد الهزيمة المؤلمة، دعا أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه المسلمين إلى الجهاد، فتجمع أربعة آلاف منهم تحت قيادة جرير بن عبدالله البجلي متوجهين إلى العراق، بينما كان جيش المسلمين تحت قيادة "المثنى بن حارثة" ينتظرون الدعم الإسلامي، في الوقت الذي قرر فيه الفرس مواجهة جيش المسلمين، وحين علم المثنى بخروج العدو لملاقاته، قرر هو أن يحدد موعد المعركة ومكانها، كي لا يقع فيما وقع فيه إخوانه في معركة الجسر، فتوجه إلى مكان اسمه البويب، وأمر المثنى جنود المدد القادمين من المدينة بالتوجه إلى البويب قائلا: "إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب"(4)، توجه المثنى إلى هناك ثم عسكر على الضفة الشرقية من نهر الفرات، وعسكر الفرس على الضفة الغربية للنهر، وحين نزل قائد الفرس مهران على شاطئ الفرات أرسل إلى المثنى قائلا "إما أن تعبر إلينا، وإما أن نَعبر إليك"، فقال المثنى: "اعبروا"

 

الرجل المناسب في المهمة المناسبة:

 

ليس معنى أن تكون صاحب حق، ألّا تبذل الجهد اللازم لإظهار ذلك الحق الذي تؤمن به، وتلتمس طريق الحكمة والحنكة والذكاء والقوة التي تستطيع، وهكذا هو ديننا الذي أمر بالتماس كافة وسائل الإعداد لمواجهة العدو، حتى إذا استنفدت كافة الأسباب، أوكلت الأمور كلها لله عز وجل، فإن شاء أتى النصر الذي هو بيده وحده، فبعض المسلمين يحسب أن مجرد الإيمان يعتبر مسوغا لنصرة الله دون بذل أو تضحية، وذلك نوع من اتهام الله عز وجل بالظلم، فحاشا وكلا أن يكون من الله إلا العدل المطلق دون محاباة، وإن كان الأمر كذلك، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليحارب في بدر ويقف في قلب المعركة داعيا، لكن، ولأنه وهو النبي المرسل، وخاتم الأنبياء والمرسلين فقد بذل كافة الأسباب التي لم تكن كافية لموازاة قدرة الكفار، لكنها هي ما بوسع المسلمين، ولذلك أتى النصر، وأما في أحد، فبرغم التفوق الذي حدث في بداية المعركة، إلا أن أسباب تحقيق النصر كاملة لم تتحقق، فحدثت الهزيمة، وذلك بمخالفة أمر قائد المعركة، وانسحاب معظم الرماة من الجبل، فالمسألة قواعد وسنن وضعها الله عز وجل لعباده لتحقيق النصر والتمكين، وقد تعلم المسلمون الدروس، فكان القائد كالجندي، كل في مكانه، وكل يؤدي دوره، وكل لا يقلل من قيمة دور الآخر، فكان المثنى قائدا في مكانه المنوط به، وكان جيشه المدرب تدريبا عاليا في المهمة التي يقدر عليها رغم قوة جيش العدو وكثرته.

 

المعركة المصيرية(5):

 

وفي صبيحة يوم المعركة، أمر جيشه بالإفطار كي يقدروا على مواجهة الأعداء، فأفطر الجيش كله، وقسم جيشه تبعا للقبائل ليصنع التنافس الحر بينهم، وعلى كل قبيلة قائد منها، والقائد الناجح، يستطيع بقيادته أن يصنع من كل جندي قائدا في مثل صفاته وحميته وقوته واندفاعه وحكمته، القائد الناجح هو الذي يصنع قادة غيره ومعه، وقد كان المثنى في جيشه كواحد منهم، غير أنه قائدهم غير العادي، مما شحذ همة الجنود ودفعهم لبطولات لا مثيل لها في التاريخ، حثهم على الصبر والثبات وأنهم رجال الإسلام الذي يجب ألا يؤتى من قبلهم، فأشعل حماستهم ولم يعد لهم أمنية سوى النصر، أو الشهادة، ونظم المثنى جيشه كصفوف الصلاة، ثم وضع فرقة تحمي ظهيرة الجيش إذا دارت الدائرة عليهم.

 

بدأ الفرس في عبور الجسر فوق النهر، وكان من خطته أن حاصر الجسر حتى لا يستطيع العبور إلا عدد محدود من جيش الفرس، فلا يضطر جيش المسلمين لمواجهة جيش الفرس بكامله، وبدأت المعركة، وبدأت معها بشائر النصر والغلبة للمسلمين، فأخذ الفرس في التراجع والفرار، لكن القائد المسلم عاجلهم وقطع الجسر، فقتل منهم الكثير، ولاذ بالفرار بعضهم، وغرق بالنهر البعض الآخر، وكان نصرا مؤزرا، يذكر التاريخ أن أعداد قتلى وغرقى الفرس اقتربت من المائة ألف منهم، لتكون معركة البويب في رمضان الثالث عشر أو الرابع عشر للهجرة بداية عظيمة لاستكمال الفتوحات الكبيرة في العراق وما بعدها.

 

ولتكون تلك لقطة رمضانية عظيمة، لشهر مبارك، صنعها القائد المسلم الفذ "المثنى بن حارثة" فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.

 

 

 

 

 

 

 

[1] موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي ص 990

 

[2] الاستيعاب في معرفة الأصحاب ص 1456 لابن عبدالبر

 

[3] البداية والنهاية لابن كثير

 

[4] تاريخ الطبري

 

[5] المغازي للواقدي، الكامل في التاريخ، موقع قصة الإسلام للدكتور راغب السرجاني (بتصرف)


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة