مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان
سيف الدين قطز.. قاهر التتار

إنه الخامس والعشرون من
رمضان عام 658 ه، حيث قد سقطت الأمة في براثن جنكيز خان، ثم هولاكو، وسقطت الخلافة
العباسية العظيمة على أيدي التتار، إمارة تلو الأخرى، ومدينة تلو مدينة كتساقط
الفراش الضعيف أمام نار تحيط به من كل مكان، وحيث هب المملوكي سيف الدين قطز من
مصر في ظروف قاسية أحاطت بالأمة فأصابتها في مقتل، وظن الناس أن الإسلام لن تقوم
له قائمة مرة أخرى، وأن الله عز وجل لن يعبد في الأرض بعد تلك الأحداث الدامية،
فبغداد قد غرقت في بحر من الدماء، وبقية العالم الإسلام ينشغل أمراؤه في قتال
بعضهم بعضا، ويتسابقون لتسليم ما تبقى لديهم لقادة التتار مستسلمين بصورة لم
تعرفها الأمة من قبل، لتضيء فجأة شمس جديدة على العالم تغير مسار البشرية مرة
أخرى، وتأتي "عين جالوت" لتشكل مسارا جديدا، بعدما انعدمت السبل، وتاه
في خضم الصراع الطريق، ويظهر رجل من أعظم رجال التاريخ، ليدير معركة من أعظم معارك
البشرية.
من هو سيف الدين قطز قاهر
التتار:
هو "محمود بن
ممدود"، من بيت ملكي، خاله "جلال الدين الخوارزمي"(1)، الذي قاوم
التتار وهزموه وقتلوا أسرته وخطفوا بقيتهم، وكان ابن أخته ضمن من تم خطفهم ليطلقوا
عليه اسم "قطز"، ليتم بيعه فيما بعد في أسواق دمشق ليشتريه أحد
الأيوبيين لينتقل به إلى مصر، حتى وصل في نهاية الأمر لعز الدين أيبك، ويكون أحد
قادته، وبعد مقتل قائده، ثم مقتل شجرة الدر، تولى بعدها ابنها المنصور وكان ما زال
طفلا صغيرا، في ظروف شديدة القسوة، تكاد تعصف بالأمة كلها، فلم يكن هناك بد من فرض
الوصاية على الطفل الحاكم، ثم إنهاء تلك الوصاية وتولي أمور الحكم بيد قطز نفسه،
لسيتطيع مواجهة الهاوية التي تواجهها مصر، التتار من ناحية، والصليبيون من ناحية
أخرى، ليعتلي قطز منفردا عرش مصر في وقت كان فيه الحكم مَغرما ومقتلة، وليس شرفا
ورفعة(2)، لتتحقق إرادة الله سبحانه، في طفل صغير، أهله مهزومون، يسرق ويحرم منهم
في بلاد بعيدة، ويربى بعيدا في بلاد لا يعرف عنها شيئا، ليصير يوما ملكا عليها، ثم
حاميا شديد البأس لها، ثم مدافعا عن كافة بلاد المسلمين مطاردا التتار محررا
المسلمين منهم، إنها الأسباب التي تتهيأ للمسلمين حين يتحرك، وحين يريد، لقد صنعت
الأقدار منه رجلا غير عادي، تربى على الخشونة والتدريب المستمر وفنون الفروسية
وأساليب القتال، وككل المماليك تربى على حب الدين والأخلاق والقيادة والتربية
العسكرية الصارمة.
الإدارة الحكيمة صفة
المجاهد الناجح:
تحديات خطيرة واجهت قطز في
بداية حكمه الذي لم يستمر سوى عام واحد فقط، عام استطاع فيه أن يدحر أقوى وأشرس
جيش عرفه التاريخ، جيش أسقط الخلافة الكبيرة في بغداد، وقتل الملايين من المسلمين
دون رحمة، فمواجهته ليست سهلة، بل في نظر البعض ليست ممكنة، فكيف والأمة بهذا
الضعف وهذا الشتات والهزائم المتكررة والسقوط المدوي؟ كيف وهو يواجه الدولة
الأعظم، والحاكم الأقوى؟ كيف وهو لا يملك من المال من الأساس ما يكون به جيشا
يدافع عن تلك المملكة الوليدة والتي ما زالت تتصارع على الحكم بين أمرائها دون
وعي، ودون مراعاة لواقعها المؤلم؟ لكن قوة القائد في حكمته، وفهمه، ووعيه، ودينه،
وخلقه، وقوة شكيمته، ثم تفهمه للصراعات والمخاوف التي تدور بخلد منافسيه، فجمعهم،
وطمأنهم بقوة شخصيته، ثم جعل لهم قضية يتوحدون من أجلها، جمع قادة المماليك قائلا
لهم: إني ما قصدت من السيطرة على الحكم إلا أن نجتمع على قتال التتار، ولا يتأتى
ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا السلطة فيمن
شئتم"(3)، وبذلك استطاع توحيد الجبهة الداخلية معه في مواجهة العدو.
الاستعداد للمعركة:
الحق بغير قوة، هو فتنة
لأتباعه أكثر منه حقا يجب اتباعه، فليس بالضرورة أن يكون صاحب الحق هو المنتصر،
وكم يشهد التاريخ على حقوق انتهكت بسبب ضعف أصحابها وتخاذلهم في الدفاع عن حقوقهم،
ولذلك فقد كانت الخطوة الأولى لقطز في حكمه هو تكوين الجيش القوي المتماسك لمواجهة
العدو، لقد كان المماليك أشداء، أقوياء، ذوي قوة وخبرة قتالية، لكن الرجال إن لم
يجمعهم هدف واحد فسوف تتشتت قوتهم، ولن تجديهم نفعا في مواجهة جيش كجيش التتار،
فكان جمع الرجال على فكرة، قبل جمعهم في صفوف جيش كي تستقيم الفكرة وينتصر الجيش،
أصدر عفوا عاما عن المماليك الذين هربوا بعد مقتل قائدهم أقطاي، وكان منهم الظاهر
بيبرس، القائد الشرس الذي كان له فضل كبير في المعركة الفاصلة بين المسلمين
والمغول، والذي أشار على قطز بقتل رسل المغول الأربعة وتعليق رؤوسهم على أبواب
القاهرة لكسر هيبة الناس من التتار، وقد نفذ قطز تلك المشورة وكانت بمثابة إعلان
حرب على المغول.
لكل قائد شيخه، وسلطان
العلماء كان شيخ قطز:
جاءت اللحظة الحاسمة، وأرسل
هولاكو رسله لتهدد مصر وتطالب قطز بتسليم البلاد دون حرب، فكان قرار الحرب حاسما،
وأتى دور شيخ العلماء العز بن عبدالسلام ليفتي، ويأمر، وقطز ينفذ، من أين يأتي
تجهيز الجيش؟ أين الميزانية وخزينة الدولة فارغة، رفض العالم الجليل أن يفرض على
الناس ضرائب جديدة وهم مطحونون في الغلاء والبلاء والحاجة، بينما في البلاد أغنياء
ينعمون بخيرها!
قال شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام: يجب فتح تلك الخزائن المليئة أولا، حتى إذا
تساوى الناس، فلتفرض الضرائب والناس سواسية، وليس بينهم غني فاحش، وفقير جائع، ولتُبع
كافة أملاك الأمراء التي اكتسبوها من الدولة، ويؤتى بحلي زوجاتهم، وحين لم تكف
الأموال لتجهيز الجيش، تم فرض دينار على كل فرد من أفراد الشعب، لتكون العدالة
سبيل النصر.
عين جالوت ووحدة المسلمين(4):
غضب هولاكو لمقتل رجاله ولم
يقدم على ذلك الفعل أحد من قبل، وقد دانت له دولة الخلافة كاملة، فأمر قائده كتبغا
بتجهيز جيش لسحق المماليك الذين تجرأوا وقتلوا رجاله، فتحرك كتبغا على الفور بجيش
قوامه عشرون ألفًا نحو سهل عين جالوت، بين نابلس وبيسان في الأرض المباركة فلسطين،
في الوقت الذي تجهز فيه قطز كذلك بعشرين ألفًا، واجتمع الأمر أن يخرج هو للقتال
خارج مصر، لا أن ينتظر جيش التتار للمجيء إليها، فتحرك وقد انضم إليه جنود من مصر
والشام ليصل لمكان المعركة مخفيا جزاء كبيرا من جيشه بين الأحراش والتلال، وفي
صبيحة الخامس والعشرين من رمضان 658 ه انطلقت المعركة الفاصلة والتي أنقذت الأمة
من هلاك محقق.
في بداية الأمر ظهر المغول على المسلمين،
لكن ثبات قطز وثقته بنصر الله، ألهم بقية الجنود على الثبات والشجاعة منقطعة
النظير حين صاح بأعلى صوته: وا إسلاماه، وا إسلاماه، فاجتمع الجنود الذين كانوا قد
أخفاهم خلف التلال، وهجموا على التتار دفعة واحدة مما أربكهم ومزق صفوفهم، ثم
اقتحم السلطان قطز المعركة بنفسه ليفاجأ الجنود به بينهم مما ألهب حماستهم أكثر،
فكبر المسلمون واشتد القتال حتى قتلوا كتبغا، وفر المغول إلى التلال ليطاردهم
المسلمون ويقتلوهم شر قتلة، وكانت تلك المعركة هي بداية وحدة المسلمين جميعا تحت
راية دولة المماليك.
رحم الله القائد المظفر سيف
الدين قطز، وجزاه عن الأمة وعن مصر وفلسطين والقدس والشام خيرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العبر في خبر من غبر 3/291، للذهبي.
(2) المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/208.
(3) موقع قصة الإسلام
للدكتور راغب السرجاني، قصة التتار من الغزو إلى عين جالوت.
(4) السلوك لمعرفة الدول والملوك للمقريزي (بتصرف).