مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..
صهيب الرومي.. «ربح البيع أبا يحيى»

ليس في الإسلام
فضل لأحد على غيره إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا فقير يأنف الناس منه، ولا غريب
يبتعد الناس عنه، ولا أجنبي ينحى بعيداً عن مواطن المسؤولية لمجرد أنه أعجمي،
فالكل في هذا المجتمع الوليد سواء، الكل هنا واحد، الكل هنا إخوة تربط بينهم أخوّة
أقوى بكثير من آصرة الأخوة بالدم.
المجتمع
الإسلامي معدود الأفراد لا غريب بينهم، فهنا أبو بكر الصديق التاجر الحر، وعمر بن
الخطاب القوي الشديد، وبلال بن رباح العبد الحبشي، وسلمان الفارسي الذي تخلط عليه
حروف اللغة العربية، وصهيب الرومي صاحب اللكنة الغربية في كلامه، كلهم إخوة متحابون
متكاملون، فلا صغيرهم يشعر بنقص، ولا غريبهم يشعر بغربة، ولا غنيهم يشعر بفخر إلا
أن كرمه الله بالإسلام، وهكذا كان صهيب الذي أتى من بعيد تاركاً عز أبيه، ملتمساً
عزة وأخوّة الإسلام بعيداً في بلاد العرب.
من
هو صهيب الرومي؟ ومن أين أتى؟
هو صهيب بن سنان
(أبو يحيى النمري)، من النمر بن قاسط، ويعرف بالرومي، لأنه أقام في الروم مدة، وهو
من أهل الجزيرة، سبي من قرية نينوى، من أعمال الموصل، وقد كان أبوه، أو عمه، عاملاً
لكسرى، وتم سبيه من الروم حين غاروا على مدينته، ثم جلب إلى مكة، فاشتراه عبدالله
بن جدعان القرشي التيمي(1)، ولد في أحضان البذخ والرفاهية، ثم انتقل
سبياً لبلاد الروم الذين قضى شبابه بينهم ليتعلم منهم ويكتسب لغتهم، ثم يقتنصه
تجار العبيد لينتهي به المطاف في مكة ليشتريه عبدالله بن جدعان الذي يعجب به
وبنشاطه فيحرره ويتيح له العمل بالتجارة والكسب من خلالها.
إسلام
صهيب
يأذن الله عز
وجل للإنسان بالخير، فلا راد لما أراد الله، فينزل النور لينير طريق القلب، لتطيع
الجوارح وتنقاد للقلب برفق، وتظهر قيمة الصحبة التي يقرر الإنسان اختيارها في
الدنيا برغبته الخالصة دون مصلحة تذكر بينهم أو غاية مرتجاه.
ولقد أذن الله
لصهيب أن يجتاح الفهم قلبه وعقله، ليقوده قلبه وترسم خطواته اتجاهات نحو دار
الأرقم بعدما سمع بالدين الجديد، تهديه فطرته السوية، وقلبه المستنير، وعقله
الواعي، ولأنه اختار عمار بن ياسر صديقاً وصاحباً، فقد كانت الخطوات واحدة نحو نفس
الهدف، وفي ذات التوقيت، حاملين نفس الرغبة نحو الله عز وجل.
وها هو عمار
يحكي قصة إسلامهما معاً فيقول: لقيت صهيباً على باب دار الأرقم، وفيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فدخلنا، فعرض علينا الإسلام؛ فأسلمنا، ثم مكثنا يوماً على ذلك
حتى أمسينا، فخرجنا ونحن مستخفون(2).
ويبدأ صهيب حياة
أخرى مع صاحبه، بل مع إخوانه، تاركين خلفهم الدنيا ابتغاء مرضاة الله، لتطاردهم
وتطرح مجدها بين أيديهم، ولم تكن التضحيات التي قدموها سدى، وهم الفقراء والعبيد
والموالي والضعفاء، هم الذين يواجهون الكفر بلا قبيلة تساندهم، وبغير أهل يأوونهم،
وبلا مأوى يخفيهم عن أعين المشركين الذين أعملوا فيهم التعذيب ليل نهار.
هجرة
صهيب وجهاده
كثيراً ما يتوقف
الإنسان في محطات مهمة في حياته متسائلاً عن سر كل هذا الذي يدور حوله في الكون
والحياة والأقدار، من وراء كل هذا الجمال والحكمة والدقة في إدارة الكون؟ وماذا
يساوي العمر؟ وما قيمة المال والجاه؟ وما قيمة السطوة والحكم؟
فحين تعرف لتلك
التساؤلات جواباً، فقد هانت كل التضحيات، وصار عمر واحد لا يكفي ليبذله المرء في
سبيل ما يعتقده نحو إله الكون الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحكم العدل، ما قيمة أن
يأتيك الله بالدنيا وأنت في غير طريقه؟
هاجر المؤمنون،
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وصار للإسلام دولة متكاملة،
وبقي في مكة صهيب يدير تجارته وماله، لكن الروح تهفو للصحبة الطيبة، ولإقامة دين
الله بين المؤمنين، وصهيب لا منعة له تحميه حين خروجه، فليكن ثمن خروجه بدينه كل
ما يملك من مال ودار، كان عليه أن يساوم قريش، ليس رغبة في المال، وإنما رغبة في
الهروب بدينه مهما كان الثمن، والذي اشترى الجنة، يسهل عليه بيع الدنيا وما فيها،
وبدون تردد، تنازل صهيب عن كل ما كسبه من الدنيا في سنوات عمره السابقة ليلحق بالنبي
صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فحين احتبسته
قريش وهو مهاجر، قال لهم بعدما نزل عن راحلته، وَنَثَرَ مَا فِي كِنَانَتِهِ
وَأَخَذَ قَوْسَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ
أَرْمَاكُمْ رَجُلًا، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ
بِمَا فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ
شَيْءٌ، ثُمَّ افْعَلُوا ما شئتم، فَإِنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي
وَخَلَّيْتُمْ سَبِيْلِي؟ قَالُوا: نَفْعَلُ. فقال لهم: أشهد الله أني تركتُ لكم
مالي كلَّه، ومالي في المكان الفلاني(3).
بلغ خبرُ صهيبِ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم بعد أن لحق به بالمدينة المنورة، فقال له صلى الله عليه وسلم:
«ربح البيع أبا يحيى»، وتلا قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207).
لقد شهد صهيب المشاهد
كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، في كل غزوة وكل سرية، لكن جهاده الأكبر كان في
هجرته، ومقاومته غريزة حب المال، وتنازله مختاراً عن كل ما يملك فداء لهجرته
ولحاقه بالأحبة، وأما عن حضوره المشاهد، فقد روى الطبراني عنه أنه قال: لم يشهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت
حاضرها، ولم يسر سرية إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة إلا كنت فيها عن يمينه أو
شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما
جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو قط حتى توفي رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
_____________________
(1) سير أعلام
النبلاء، ج2، ص18، للإمام شمس الدين الذهبي.
(2) المرجع
السابق، ج2، ص17.
(3) ابن حجر
العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة: (3/ 365)، وابن عبدالبر، الاستيعاب في معرفة
الأصحاب: (2/ 729)، والذهبي، سير أعلام النبلاء: (3/ 353).