الملكة بلقيس وإدارة الدولة

على مدار التاريخ كان وصول النساء إلى سدة الحكم هو القليل النادر، وكان العرب قبل الإسلام متفرقين، لا مُلك لهم جامع يحكمهم، وإن برزت لهم ممالك في الشمال والجنوب، لكنها في غالبها كانت ممالك تابعة للقوى العظمى في تلك الأعصار.
وتناقلت التواريخ أن شخصيتين نسائيتين حكمتا ممالك عربية قبل الإسلام، وكانتا لهما من القوة والأثر العظيم ما جعل ذاكرة التاريخ تحافظ على ذكرهما، وتخلِّد أسماءهما.
أما الأولى والأقدم تاريخيًّا فهي ملكة سبأ باليمن، في جنوب الجزيرة العربية، تلك السيدة المسماة: بلقيس والتي خلَّد القرآن ذكرها؛ لأنها أسلمت لله، فلم يكن ملكها داعيًا لها أن تردَّ الهُدى بعد إذ جاءها، ولم تخف من شعبها وقادتها الذين كانوا يعبدون الشمس من دون الله، وسلكت طريق الإيمان والعبودية لله، وإن لم نكن نعلم مصير قومها بعد إيمانها، هل آمنوا، أم ثبتوا على شركهم وكفرهم؟
وأما الثانية فهي ملكة تدمر بشمال جزيرة العرب، والتي قتلت الملوك، وقاتلت الأباطرة، وكانت ذات حيلة ومكر ودهاء، وهي المسماة: الزبَّاء، ولعلها لعدم إسلامها أضرب القرآن عن إيراد قصتها، أو الإلماح لها، وإن كان القرآن في الأساس غير معني بالحديث عن الملوك أو الملكات، إلا فيما يخدم قضية الإيمان.
وكلتاهما كانتا قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
وسنحاول أن نتعرف على بلقيس وكيفية إدارتها للدولة من خلال قصتها في القرآن.
وبلقيس كانت أسطورة من أساطير العرب؛ فهي شخصية نُسجت حولها الأساطير، فاختلطت الحقيقة بالخيال، والواقع بالأسطورة؛ لأنها شخصية لم تتكرر بين العرب على طول تاريخهم.
ومن تلك الأساطير الزعم أن "أحد أبويها من الجن... مؤخر إحدى قدميها مثل حافر الدابة" .(1)
وسنضرب عن كل هذه الأمور، لنقف على حكمها ونظامها وإدارتها من خلال النص القرآني:
نظام الحكم
كان نظام الحكم عند قومها ملكيًّا وراثيًّا، وقد تملَّكت قومها وأذعنوا لها، وأقرُّوا بحكمها بعد أبيها، وقيل: امتد حكم تلك الأسرة لأربعين ملكًا قبلها، قال أبو السعود في تفسيره: "كان أبوها ملك أرض اليمن كلها، ورث الملك من أربعين أبًا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، ودانت لها الأمة" (2).
وهذا النظام الملكي مستفاد من قوله -تعالى: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) (النمل: 23).
أُبَّهة الملك
تمتعت بلقيس بأبهة الملك انطلاقًا من قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل: 23)، وهذا ما حكاه الهدهد منبهرًا لسيدنا سليمان، عليه السلام، رغم أنه يعيش في مملكته التي فيها العجب العجاب من الجن البنائين والغواصين... إلخ، والرياح التي تنقل الجيش إلى أي مكان.
وتلك الأبهة دالة على أحد أمرين:
إما أنها أنفقت أموال شعبها على الزخارف والبهارج الدالة على عظمة السلطان والمُلك، وتركت شعبها يتردى في مهاوي الجوع والفقر، أو أنها جعلت لها حظًّا في هذا المال لإبراز قوة المُلك وسطوته، ولم تنس شعبها، ولم تبخل عليه؛ فعاش في ظلها في رفاه، وإن كنت أميل للأمر الثاني؛ نظرًا لما تمتعت به بلقيس من رجاحة العقل، وحُسن التصرف.
الشفافية والمصارحة
تتمتع الأنظمة العادلة بأنها لا تحجب المعلومات عن الشعب؛ فضلاً عن النخبة وصناع القرار، وتتعامل مع الأزمات بشفافية تامة، أما الأنظمة الديكتاتورية الشمولية فإنها ترى ضررًا حقيقيًّا في المعلومات الصحيحة والأرقام الحقيقية، فنجد الشعب والنخبة متخبطين في التحليل للأحداث؛ إذ إنهم لا يملكون المعلومات.
ونجد تلك الأنظمة تقوم بسن القوانين وتُعلن عن القرارات في غيبة تامة عن الشعب الذي تمسه مسًّا مباشرًا هذه القوانين والتشريعات والقرارات، لكن الملكة بلقيس لم تحجب المعلومات، بل عرضتها دون زيادة أو نقصان فقالت: (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل:29-31).
القيام بفرض الشورى
القيام بأمر الشورى ليس ترفًا أو مِنَّة من الحكام تجاه شعوبهم، بل هو واجب عليهم، وإلا لأصبحت الدولة رهينة الرأي الواحد والفكر الواحد والنظرة الأحادية، وفي ذلك خطر على النظام والأمة على المدى القريب والبعيد.
وهناك من يفرِّغ الشورى من مضمونها ومحتواها باصطفاء مجموعة من ضعاف الرأي، أو المنافقين الذين يعرفون ماذا يقولون لإرضاء الحاكم، ولا يخرجون عن هواه قيد أنملة؛ فلا يُسمعونه إلا ما يحب أن يسمعه.
ومخرجات الشورى في تلك الحالة عبثية، وليست شورى، بل هي قرارات ارتجالية فارغة من أي فائدة، إذ إنها ليست مؤسسة على رؤية حكيمة ثاقبة من جميع الزوايا، بعد عرضها على أهل الاختصاص، لذا فإن نتيجة تلك القرارات تكون كارثية.
لكن الملكة بلقيس أقامت ديوانها، واستشارت مجلسها، وعرضت ما بين يديها من معلومات ومعطيات، واستمعت لمقترحات مستشاريها، وتبادلوا جميعًا الآراء، ثم خرج القرار المجمع عليه المرضي عنه من الجميع أو الغالبية، وذلك ظاهر من قوله تعالى: (قَالَتْ يأيها الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: 32-33).
الخوف على الأمة
القائد الحكيم لا يدخل حربًا لم تُفرض عليه، ويجنِّب أمته الحروب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكنه يكون دائمًا مستعدًّا من خلال الجند والعدة والعتاد، فإن فُرضت عليه الحرب أحسن التخطيط لها ودخلها بقلب شجاع؛ حتى يكون قدوة لقادته وجنوده من خلفهم.
والملكة بلقيس رغم ما رفعه مستشاروها إليها من حالتهم الدالة على قوتهم واستعدادهم، لكنها رأت إمكانية ألا يدخلوا تلك الحرب، وأن الأمور يمكن أن يتم حلها بوسائل أخرى، دون إراقة الدماء، وتدمير العمران، وإذلال الناس، وقالت قاعدتها الخالدة التي قررها القرآن: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: 34).
مصانعة الملوك
و"المُصانَعَةُ: الرِّشْوَةُ، والمُداراةُ، والمُداهَنَةُ" (3). وقد فرت بلقيس من مواجهة غير محسوبة العواقب مع ملك قوي كسليمان عليه السلام، ورأت أن الملاينة معه أولى وأفضل، وكان من مصانعتها له إرسالها لهدية له لترى ردة فعله؛ فإن قبلها فهو طالب مال، وإن رفضها فكرت في عرضه عليها، وإرسال الهدية فيه إطالة للوقت وإتاحة الفرصة للتفكير المتأني.
قال تعالى، حاكيًا قولها: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل:35).
قال قتادة: "رحمها الله ورضي عنها، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس". وقال ابن عباس وغير واحد: "قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه" (4).
بعد هذا العرض السريع الموجز المقتضب نرى أن بلقيس نجحت في إدارة دولتها، وكانت خيرًا على أمتها وشعبها في الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تفسير ابن أبي حاتم، (9/2865).
(2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، (6/281).
(3) القاموس المحيط للفيروزآبادي، ص (955).
(4) تفسير ابن كثير، (6/190).