كيف تواجه النساء ضغوط النزوح والشتات؟!

منذ سنوات، التقيت في رفح بمجموعة من العائلات الفلسطينية العالقة في انتظار فتح المعبر، كنت وقتها في مهمة صحفية للوقوف على أوضاع هذه العائلات.
وبعد أن انتهى الحوار معهم، انفردت بالنساء وحدهن وجلسنا فيما يشبه مطبخ، كان منسقاً بشدة رغم بساطته، وقد قامت السيدات بغسل العلب البلاستيكية للطعام المصري الشهير «الكشري» واستعملنها كبديل للصحون.
وعندما أشدت بقدرتهن الفائقة على التكيف واستغلال أدق التفاصيل للحياة، بُحن لي بكثير مما يواجهن، وكان من ضمن ما قلن لي وقتها: إنهن يعانين ضعف ما يعانيه الرجال أو أكثر، فعلى عاتقهن يقع تدبير احتياجات الأسرة كما المعتاد في ظل ظروف لا تسمح لهن بذلك.
بعد لحظات صمت قالت لي إحداهن: إنهم يعيشون على المساعدات، والرجال لا يعملون نتيجة ظروف الشتات، وهذا وضع غير طبيعي، جعلهم في حالة من العصبية الشديدة، إضافة طبعاً لوضعهم كعالقين، وبالتالي فإن الرجال يتدخلون في كل تفاصيل الحياة المنزلية؛ وهذا ما جعل الأجواء مشحونة، وعلى عاتق المرأة وقتها أن تقوم بامتصاص نوبات الغضب وفائض الانفعالات.
كان هذا الكلام بمثابة مفاجأة بالنسبة لي، فلم أكن قد انتبهت من قبل إلى أن العالقين واللاجئين والنازحين يعانون نفسياً نتيجة الخلل في القيام بالأدوار الأسرية، حيث كان تصوري أن المعاناة ستكون بسبب قلة الدعم والمساعدات أو البعد عن الوطن، ونحو ذلك، لكنني اكتشفت صوراً أخرى للمعاناة والضغوط التي لا يتم التحدث عنها علناً، وكيف واجهتها اللاجئة في أسرة النزوح والشتات.
مشكلة الإنفاق
تذكرت هذه المشكلة وأنا أتابع تقريراً إخبارياً عن اللاجئين السوريين، تقول فيه الزوجة: إنها هي من تخرج للعمل خارج المخيم؛ لأن الشرطة لا تدقق مع النساء، بينما زوجها لا يعمل؛ لأنه لا يحمل تصريحاً للعمل، وتم ضبطه عند الحاجز 3 مرات، فكان المصير البقاء في البيت لرعاية الأطفال، بينما هي خرجت للعمل (أعمال صغيرة للمهمشين) من أجل دفع إيجار الخيمة وشراء بعض المستلزمات الأساسية، ثم تعود لتقوم بإعداد الطعام في ظل ظروف مأساوية، فهي تطهو الطعام على موقد بدائي، ومع صعوبة الحصول على الماء النظيف كانت الضغوط مضاعفة أضعافاً كثيرة عليها.
حالة هذه اللاجئة نموذج لمئات الألوف من اللاجئات اللاتي أصبحن مسؤولات عن إعالة الأسرة سواء لظروف وفاة الزوج أو إعاقته وعجزه الجسدي، أو أنه لا يصرح له بالعمل، وهو عبء يضاف للأعباء النمطية المعتادة لدور الزوجة والأم داخل الأسرة، إضافة إلى العبء النفسي المتمثل في ممارسة المرأة دوراً لا يخصها وهي له غير مهيأة.
ظروف الخيمة
أكثر ما تعاني منه المرأة داخل الخيمة هو افتقاد الأمان، وكيف تشعر بالأمان ولا باب يغلق عليها؟! حتى إن الكثيرات يرفضن خلع الحجاب داخل الخيمة، وأدركت النساء في المخيمات بالطريقة بالغة الصعوبة كيف أن وجود الباب في حد ذاته نعمة، فما بالك بالبيت؟
لقد عانت النساء من الخوف داخل الخيمة؛ الخوف من الحشرات اللاذعة خاصة في الصيف، والخوف من الحيوانات الضالة، والخوف من برد الشتاء والصقيع بلا تدفئة، والخوف من الأمطار وأن تغرق الخيمة.
افتقدت المرأة في الخيمة أي مساحة للخصوصية، فإذا تحدثت بصوت مرتفع بعض الشيء سمع الجميع حديثها، وإذا ضحكت سمع صوت ضحكتها، الحياة الخاصة مع زوجها داخل الخيمة في هذه الظروف ومع وجود الأطفال في نفس الخيمة تمثل ضغطاً هائلاً عليها.
غياب المياه الصالحة للشرب في كثير من الأحيان، وافتقاد الصرف الصحي خاصة في المخيمات العشوائية؛ تجعل حياة المخيمات بالغة القتامة.
حتى النظافة الشخصية الأساسية أصبحت تمثل مشكلة حقيقية، حتى لجأت بعض اللاجئات لقص شعورهن وشعور بناتهن لأنهن لا يجدن المنظفات ولا المياه الكافية لغسل الشعر والاهتمام به، إنها التفاصيل الصغيرة المليئة بالمعاناة والوجع!
الحمل والولادة
أما أضخم مشكلة تقابلها الأم في أسر النزوح والشتات على الإطلاق فهي تلك المشكلات المرتبطة بالحمل والولادة، فمع سوء الخدمات الصحية المقدمة خاصة في المخيمات العشوائية والبعيدة، ارتفعت معدلات الوفيات بين الأمهات، وأصبحت متابعة الحمل أمراً صعب الحدوث، حتى إن بعض الأمهات لم تتم متابعتهن مطلقاً، وبعضهن استطعن زيارة الطبيب مرة واحدة، فالمال لا يكفي الطعام حتى يتم إنفاقه على الخدمات الصحية، بل إن الطعام نفسه قد يكون مجرد خبز، وقد يكون الطعام مجرد وجبة واحدة، ومن ثم عانت النساء الحوامل من سوء التغذية وانتشرت بينهن الأنيميا والضعف والهزال رغم الأعباء الأسرية الكثيفة الملقاة على عاتقهن.
كانت الولادة العقبة الكؤود في حياة الأم النازحة، فكثيرات ولدن في الخيمة على يد النساء اللاتي يمتلكن بعض الخبرة، وعاشت نساء غزة الحوامل مأساة بكل معنى ممكن لهذه الكلمة، وقمن بالولادة تحت القصف وتحت الأنقاض، ألم الولادة القاسي أمر لا يفهمه ولا يشعر به سوى النساء، فأن يضرب هذا الألم المرأة تحت وابل النيران أو وهي تحاول الهروب إلى منطقة آمنة أو هي ملقاة في خيمة مهترئة.. فأي عذاب هذا؟! أما إن كانت الأم بحاجة للولادة القيصرية فقد تدفع حياتها ثمناً أن تكون أماً في ظل الحرب الدائرة.
رعاية الأطفال
تقع مسؤولية رعاية الأطفال على الأم بشكل أساسي في الأحوال الطبيعية أو في حال النزوح واللجوء، فبالإضافة لإشباع الحاجات الأساسية من إعداد الطعام وتقديمه وإدارة شؤون البيت أو الخيمة ورعاية الأطفال المرضى خاصة مع انتشار سوء التغذية والتعرض لنزلات البرد التي قد تصل للالتهاب الرئوي؛ تقع على عاتق الأم أيضاً مسؤولية بث الطمأنينة والأمل في قلوب الأطفال، ومنحهم بعض الإجابات الشافية لما يدور في عقولهم من أسئلة.
أما متابعة شؤون تعليمهم في ظل النزوح فيعد أمراً بالغ الصعوبة، وكان أن تسرب كثير من أطفال الأسر النازحة من التعليم، والكثير منهم اتجهوا للأعمال الشاقة لمساعدة الأم والعائلة على تأمين الطعام، واضطرت بعض العائلات للقبول بالزواج المبكر لبناتهن سواء داخل المخيم أو خارجه، ومعدلات الطلاق بين هذه الزيجات هي الأشد ارتفاعاً، وغالباً ما ينتج عن هذا الزواج أطفال بحاجة للرعاية، فتصبح أماً طفلة ترعى طفلاً أو طفلة وتعود به لخيمة عائلتها المزدحمة.
قوة الحياة
واجهت الزوجة والأم هذه الضغوط المضاعفة الناتجة عن كونها لاجئة أو نازحة، مع كونها امرأة، بكثير من الشجاعة والصمود، حتى إنهن يحكين أقصى الصعوبات وهن يبكين، ثم تراهن يبتسمن، حتى لو كانت ابتسامة حزينة محملة بالدموع لكنها تحمل معاني قوة الحياة.
واجهت النساء الحياة البائسة في المخيمات بأصص الزرع في كل مكان، حتى لو كانت أصصاً من الصفيح، وبترتيب الخيمة وتزيينها بالرسوم، حاولن بث البهجة والأمل، وصنعن الكعك عندما كانت الظروف تتيح لهن مكوناته، ناضلن من أجل ألا يتسرب أطفالهن من التعليم، خرجن للعمل وإعالة الأسرة، تحدين الاكتئاب والصدمة بالحكي والفضفضة ومجموعات الدعم.
إنها ملحمة إنسانية حقيقية سطرتها امرأة النزوح والشتات، لم يكنّ نساء خارقات، ولكنهن امتلكن من المرونة النفسية ومهارات التكيف ما ينبغي أن نتوقف طويلاً لبحثه.