الهوية الثقافية الكويتية: بين تحديات العولمة ومسؤولية الحفاظ عليها
عندما تهب رياح العولمة، لا تسقط الأشجار ذات الجذور العميقة، بل تنحني قليلًا لتقاوم وتظل ثابتة. كذلك هي الهوية الثقافية، حصن الأمم المنيع وذاكرتها الحية، فإن ضعفت أو تلاشت، أصبح المجتمع أشبه بسفينة بلا بوصلة، تائهة في محيط لا قرار له. وفي الكويت، حيث الأصالة تتشابك مع الحداثة، يبقى الحفاظ على الهوية الثقافية مسؤولية وطنية تتقاسمها الدولة، الأسرة، والمؤسسات التعليمية والمجتمعية، وسط تحديات رقمية وثقافية لم يسبق لها مثيل.
الهوية الثقافية الكويتية عبر التاريخ
لم تكن الكويت يومًا مجرد بقعة جغرافية على الخريطة، بل كانت منارة للثقافة والفكر، وحاضنة للقيم والتقاليد الأصيلة التي ورثها الأبناء عن الأجداد. فمنذ القدم، تشكلت الهوية الثقافية الكويتية من مزيج فريد يجمع بين التراث العربي الإسلامي والانفتاح على الحضارات المجاورة، حيث تأثرت بالكويت بالتجارة البحرية والثقافات المختلفة، دون أن تفقد هويتها أو تتخلى عن ملامحها.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، لعبت الكويت دورًا ثقافيًا وتنويريًا رائدًا، فكانت ملتقى للمفكرين والمثقفين، ومنبرًا للحوار الفكري والإبداع الأدبي. لم تكن الصحافة الكويتية مجرد ناقل للأخبار، بل كانت مصنعًا للفكر ومنبرًا لحرية التعبير، حيث ساهمت في تشكيل وعي المجتمع وتوجيهه نحو قضايا النهضة والتطور.
التحديات المعاصرة وتأثير العولمة
في زمن أصبحت فيه الثقافات ممتزجة كألوان الطيف، لم يعد التمسك بالهوية الثقافية أمرًا سهلًا، بل تحول إلى معركة يومية بين الأصالة والمعاصرة. وسائل التواصل الاجتماعي، التعليم الأجنبي، وسهولة السفر، جميعها عوامل فتحت الباب أمام التأثر بالثقافات الأخرى، لاسيما الغربية، مما أدى إلى ظهور أنماط جديدة من السلوكيات والعادات التي قد تتناقض مع القيم الأصلية للمجتمع الكويتي.
ولعل أخطر ما في الأمر أن التأثير لم يكن سطحيًا أو يقتصر على المظهر، بل امتد ليشمل القيم والمعتقدات، حيث بات بعض الشباب ينظرون إلى تقاليدهم بعين المتردد، بينما يتبنون أنماط حياة دخيلة، ظنًا منهم أنها السبيل للحداثة والتحرر.
مسؤولية الدولة والمجتمع في الحفاظ على الهوية الثقافية
في مواجهة هذه التحديات، يأتي دور الدولة كمظلة حامية للهوية الوطنية، عبر سياسات تعليمية وإعلامية تعزز قيم المجتمع وترسخها في نفوس الأجيال الجديدة. وزارة التربية والتعليم العالي تتحمل مسؤولية كبرى في دمج الهوية الثقافية في المناهج الدراسية، بحيث لا يكون التعليم مقتصرًا على المعرفة العلمية فقط، بل يشمل أيضًا بناء شخصية الفرد وتعزيز انتمائه لمجتمعه.
كما أن وسائل الإعلام، سواء التقليدية أو الرقمية، يجب أن تلعب دورًا إيجابيًا في نشر الثقافة الوطنية، وإنتاج محتوى يعكس الهوية الكويتية وقيمها، بدلاً من أن تكون مجرد ناقل للثقافات الوافدة.
أما الأسرة، فهي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل معاني الانتماء والهوية، لذلك فإن دور الوالدين في غرس القيم والاعتزاز بالتراث لا يقل أهمية عن دور المؤسسات التعليمية.
دور الشباب في حماية هويتهم الثقافية
الشباب ليسوا مجرد متلقين للثقافة، بل هم صُنّاعها وحماتها، وهم المعنيون قبل غيرهم بالحفاظ على هويتهم وسط زخم العولمة. ولتحقيق ذلك، لا بد أن يكون لديهم وعي نقدي يمكنهم من التمييز بين ما يمكن تبنيه وما يجب تجنبه من الثقافات الأخرى، مع إدراك أن التحديث لا يعني بالضرورة التخلي عن الجذور.
الهوية الثقافية ليست مجرد إرث من الماضي، بل هي البوصلة التي ترشد الأجيال القادمة نحو المستقبل، فإن أهملناها فقدنا معالم طريقنا، وإن تمسكنا بها منحنا أنفسنا القدرة على الإبحار بثقة في عالم متغير. وكما كانت الكويت عبر تاريخها رائدة في الحفاظ على ثقافتها وهويتها، فإن مسؤولية كل فرد اليوم، من مواطنين ومؤسسات، أن يكون حارسًا لهذا الإرث العظيم، فالأوطان لا تُبنى بالمباني الشاهقة فقط، بل بهوية ثقافية راسخة لا تهزها العواصف.