خلافة قرطبة في الميزان

أ‌.د. حمدي شاهين

24 يناير 2025

3513

تُقدم خلافة قرطبة -التي بدأها أمير ماجد من بني أمية هو عبدالرحمن الناصر- جملة من دروس التاريخ، وجملة من قصص الحضارة، وكلتاهما جديرة بالدرس والاعتبار.

فقد جاءه المُلك على غير موعد ولا نظام، فاستخلفه جده الأمير عبدالله بن محمد بعد موت والده وهو صغير، وأمَّره دون أعمامه وأعمام أبيه، فلم ينازعه أحد منهم، وكأن أوضاع الأندلس البئيس قد أزرت بمعنى الملك وشارته، إذ كانت تبدو في هزيعها الأخير، ولا تغري بمنازعة لملك محفوف بالخطر، مؤذن بالزوال!

كان ذلك عام 300هـ/ 912م، في وقت لم تكن تحت سيطرة الخليفة الشاب ابن الاثنين والعشرين ربيعًا سوى سدس مساحة الأندلس، أما خمسة أسداسها فقد دانت لمتمردين وثائرين، يتنازعونها فيما بينهم، حتى وصف ابن عذاري الأندلس آنذاك بأنها «جمرة تحتدم، ونار تضطرم؛ شقاقًا ونفاقًا»، وأما الشمال فيتربص فيه نصارى الإسبان، يترقبون الانقضاض على دولة الإسلام، فلا يحول بينهم وبينه إلا صراعاتهم الداخلية التي لا تبرد.

وأما الجنوب، في العدوة المغربية فثمّ العبيديون، قد أقاموا خلافتهم (الفاطمية)، وأطلقوا لأطماعهم العنان صوب الأندلس، حيث إمارة الأمويين الذابلة، وصوب بغداد والقاهرة، حيث خلافة العباسيين المتداعية.

بدا الأمير الشاب وكأنه نفخ في جسد الأندلس روحًا جديدًا، فخلعت أردية الوهن، وسارت جيوشه في شرق البلاد وغربها، تعيد لُحمتها، ووحدتها، واستعاد كثيرًا مما فقده السالفون من آبائه على يد ممالك نصارى الإسبان، وضم إليه سبتة ومليلية على مجاز مضيق جبل طارق، وأراضي من شمال أفريقية، يضيِّق بذلك على العبيديين، ويكفّ عاديتهم، ويثير يأسهم منه، فلا غرو أن اتجهوا بعد قليل إلى مصر، يضمونها، ويستعيضون بها عن حلم المغرب والأندلس، وأمضى الناصر في ذلك ستة عشر عامًا، وعندها أعلن نفسه خليفة، والأندلس خلافة سنة 316هـ؛ إذ لم يعد لقب «الأمير» يسع جدّه وطموحه.

كانت هذه بدعة جديدة في نظام الإسلام المعهود، فلم يعرف أهل السُّنة إلا الخلافة الواحدة، لكن فقهاء العصر سوَّغوا للخليفة مراده، فخلافة العباسيين قد غدت ظلاً باهتاً مذ سيطر عليها الأتراك (232-334هـ)، أما الخلافة العبيدية فلا يعترف أهل السُّنة بشرعيتها ابتداءً.

وكان مما لفت انتباه المؤرخين أن عبدالرحمن الناصر بدأ في جهاده ضد ممالك نصارى الشمال قبل أن يستكمل توحيد مملكته، ولم يكن قد مضى من حكمه إلا عام واحد، إذ كان الناصر يلفت انتباه المسلمين إلى الواجب الأوجب، أن تتجه سيوفهم إلى الخطر المشترك الذي لا يرقب في أهل الإسلام إلّا ولا ذمّة؟

كان الناصر مغرمًا بالفتح، وكان حريصًا على دينه، وقّافًا عند نصح العلماء، وإن قسا الناصح، فقد زجره فقيه الأندلس المنذر بن سعيد في خطبة الجمعة، لما أسرف في بناء الزهراء وقصورها، وحين عاد الناصر إلى بيته قال: «والله! لقد تعمَّدني منذر بخطبته، وما عَنى بها غيري، فأَسرَفَ عليَّ، وأَفرَط في تقريعي، ولم يُحْسِن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني»! فأشار عليه رجل بعزله، فردَّ الناصر قائلاً: «أَمِثْلُ منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل؟! يُعزَل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غيرَ قصد؟! هذا والله لا يكون، وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقِه»!

وأصاب الناس قحط، فجاء رسول القاضي يحركه للخروج، فلبس ثوبا خشنًا، وبكى واستغفر، وتذلل لربه، وقال: ناصيتي بيدك، لا تعذب الرعية بي، لن يفوتك مني شيء، فبلغ القاضي، فتهلل وجهه، وقال: إذا خشع جبار الأرض، يرحم جبار السماء، فاستسقوا ورحموا.

واصل الحكم المستنصر (350-366هـ) أمجاد أبيه، ففرض هيبة الدولة على ممالك الشمال الإسباني، وقدمت إليه وفود أوروبا تترا، وبلغ شأن قرطبة شأوًا بعيدًا، وكذا الزهراء العاصمة التي أتم بناءها بعد وفاة أبيه، وخلف الحكم ولده الصبي هشام المؤيد بالله عام 366هـ، وكان في الثانية عشرة من عمره، فتولت أمه صبح البشكنسية الوصاية عليه، وما لبث الأمير الطموح المنصور محمد بن أبي عامر (ت 392هـ) أن ولي الوزارة بمساعدة أم الخليفة الصبي، وتخلص من منافسيه، ثم قرر الحجْر على الخليفة وأمه، وانفرد بالحكم، وأورثه بعده ولديه عبدالملك ثم عبدالرحمن، فيما عُرف بالدولة العامرية، أما الخليفة المستضعف فقد وُصف بالسفه وقلة العقل، وأن المنصور كان معذورًا في حجبه.

كان المنصور شديد البأس، ميمون النقيبة، وما الظن برجل غزا ممالك الشمال النصراني 57 غزوة، لم يهزم في واحدة منها، شغوفاً بالجهاد إلى حد أن كان ينفض غبار كل معركة يخوضها، فجمع من ذلك قدرًا أوصى أن يُدفن معه في قبره!

كان عبدالملك بن المنصور في حنكة أبيه، وعلى سمته، لكن أخاه الذي خلفه عبدالرحمن (تولى عام 399هـ) كان شديد الطيش، وارتكب حماقة جرت الخبال على الدولة كلها، إذ أجبر الخليفة المحجور عليه هشامًا أن يوليه ولاية عهده؛ ما أثار بني أمية، فقتلوه، وولوا أحدهم، فلم يهنأ بالملك إذ ثار عليه آخرون من بيته، واستعان كل فريق بنصارى الشمال، وتنازل بعضهم عن أراضٍ لضمان حيادهم، أو لكسب تأييدهم؛ ما أدى إلى سقوط دولة الخلافة نهائيًا عام 422هـ.

بلغت العناية بالحضارة شأوًا بعيدًا، فكان الحكم المستنصر جمّاعًا للكتب، بلغت أعدادها في مكتبته نحو 400 ألف مجلد، وقلّما خلا كتاب في مكتبته إلا وعليه تعليق بخط يده، وقد اتسع مجال الحرية الفكرية لغير المسلمين، وسمحت الأجواء بالجدال الديني الذي أثمر عملهـاً علميًا رائدًا في مقارنة الأديان على يد ابن حزم الأندلسي في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل».

وجعل الناصر من جامع قرطبة جامعة، سبقت جامعة الأزهر وجامعها، وجامعات أوروبا قاطبة، ووفد إليها طلاب العلم من المسلمين ومن ناهضي أوروبا، فأصبحت قرطبة كما صفها الرازي «أم المدائن، وسرَّة الأندلس»، وابتنى الناصر عاصمته الجديدة، الزهراء، بجوار قرطبة لتليق بالخليفة ووفوده، وتنافس بغداد والقاهرة.

وبالرغم من ذلك المجد، تؤخذ على سياسة العصر مآخذ: فقد كان الخليفة يستأثر بالحكم، ولما تولى الحاجب المنصور وولداه ارتكبوا ما جنى على الدولة فيما بعد، إذ قضوا على الكفاءات القادرة مخافة أن تنقض عليهم، وربما كانت تلك سمة العصر في غالبه، وربما نتج عن معاناتهم في توحيد الدولة، وقمع الثورات.

إن نظام التوارث معهود من زمن معاوية، لكنه قد يجلب الأكفاء، وقد تودي محبة الوالد لولده بالدولة، مثلما حدث حين ولى الحكم المستنصر صغيره الحكم، ولم يجد الفقهاء المنكرون بدًا من الصمت.

ولم تستطع الخلافة إيجاد الصيغة الجامعة لعناصر الأمة المتشاكسة من عرب وبربر، فأسقطتهم من الديوان، واعتمدت في الجيش على الصقالبة منذ عهد الناصر، فعظم خطرهم، وقد قدّر بعض المؤرخين عددهم في القصر بأكثر من ثلاثة عشر ألفًا، وفي مدينة الزهراء أكثر من ثلاثة آلاف فتى، وستة آلاف وسبعمائة وخمسين جارية، واشتد حنق العرب، وتربص البربر بالدولة الدوائر، والحقّ أن التأليف بين تلك العناصر المتنافرة، وما تطمح إليه من مصالح متضاربة كان عملاً عسيرًا في دولة تحارب على جميع الجبهات.

أسرف الناصر وولده في إنفاق الأموال الطائلة على العمارة، ومن عجب أن الزهراء الفاخرة لم تصمد أمام أحقاد الحروب الأهلية في أخريات الدولة، فراحت كأن لم تغنَ بالأمس، وبقي أن نشير إلى ازدياد نفوذ نساء القصر، ولم يضر ذلك إبان قوة الخلفاء، لكنه كان شرّا حين تحكمت الأهواء بالجارية البشكنسية صبح، فأضرت بولدها، وأطلقت الصراع بين كبراء الدولة، وانتهى ذلك بتفرد ابن عامر، والحجر عليها وعلى ولدها.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة