دروس من تعامل النبي ﷺ مع المشركين والمنافقين

سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم ليست قصصاً تُسرد ولا حكايات تروى، يراد منها ملء الفراغ أو تشنيف
الآذان، بل في سيرته الأسوة والقدوة؛ كما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، وفي زماننا ظن ناس أن ثمة تلازماً بين الجهر بالحق
والإساءة إلى الناس، أو أن التلطف والدبلوماسية في الخطاب تستلزم تحريف الكلم عن
مواضعه والنطق بالباطل، لكننا نتعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم دروساً في
فنون التعامل مع الكفار والمنافقين؛ ومن هذه الدروس:
أولاً: التسامح
والإغضاء عن الزلات والتجاوز عن حظ النفس؛ حيث لقي النبي صلى الله عليه وسلم
الكثير من الأذى في سبيل هداية الناس وتبليغ دعوة ربه، ومع ذلك كان أطيب الناس
نفساً وأشرحهم صدراً وأعظمهم عفواً؛ ومن ذلك ما كان في ليلة الهجرة، وكذلك يوم
الفتح حين سعى بعض كفار قريش للفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: عدم
الرد على الإساءة بمثلها: فقد كان كفار قريش يمارسون حرباً نفسية ضده عليه الصلاة
والسلام؛ فيطلقون الإشاعات المنفِّرة ويقولون عنه: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون، ولما
كان يعرض نفسه على القبائل قائلاً: «قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، كان يقف من
خلفه رجل أحول وضيء ذو غديرتين -ضفيرتين- يقول: لا تصدقوه فإنه كاذب! لا تصدقوه
فإنه مجنون! فكان الناس يعجبون ويقولون: ما هذا؟! فيقال: هذا محمد بن عبدالله يزعم
أن الله أرسله، والرجل من خلفه هو عمه أبو لهب! فكان الناس يقولون: عمُّه أعرفُ به!
وكذلك حين قال عبدالله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل؛ تحمَّل صلى الله عليه وسلم ذلك كله ولم يردَّ على الإساءة بمثلها.
ثالثاً: رغبته
في هداية الناس؛ فإنه قد أوذي من أهل الطائف وأهل مكة أشد الإيذاء، ولما نزل عليه
ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين قال عليه الصلاة والسلام: «بل أصبر
عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده»، ولما مات عمه أبو طالب على الكفر
-رغم إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم عليه ليقبل دينه- حزن عليه الصلاة والسلام
حزناً عظيماً حتى قال الله له: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
إن كثيراً من
المصلحين أو الدعاة إلى الخير يرون لزاماً عليهم أن يدأبوا في نشر دعوتهم وتبليغ
رسالتهم؛ لكنهم بعد ذلك قد لا يبالون كثيراً بمن استجاب ممن أعرض؛ أما محمد عليه
الصلاة والسلام فقد كان يدعو المخالفين ويجتهد في الدعاء لهم بأن يهديهم الله سبل
الرشاد ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
لما أخبر أبو
هريرة رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن أمه تَسُبُّه عليه الصلاة
والسلام قال: «اللهم اهد أم أبي هريرة»، ولما غزا الطائف بعد فتح مكة وقاوم أهلها
مقاومة شديدة حتى رموه وأصحابه وحصلت في صفوف المسلمين مقتلة عظيمة قال الصحابة:
ادع على ثقيف! فقال: «اللهم اهد ثقيفاً وأتِ بهم مؤمنين».
وعقيب فتح مكة
هرب صفوان بن أمية لينجو من القتل؛ فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعمامته مع
ابن عمه عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه –أمارة أمان– فرجع صفوان إلى مكة، وشهد «حنيناً»
كافراً، وقد استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم دروعاً فقال صفوان: أغصباً يا
محمد؟ قال عليه الصلاة والسلام: «بل عارية مستردة»، ولما انتهت الغزوة أعطاه النبي
صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل؛ وعرض عليه ضمان ما تلف من دروعه؛ فقال صفوان: بل
أنا اليوم في الإسلام أرغب، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس
إليّ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الناس إليَّ.
رابعاً: سلامة
صدره وعظيم عفوه؛ يظهر ذلك حين عفا عن أهل مكة بعد أن أمكنه الله منهم، وعفا عن
هبار بن الأسود، وصفوان بن أمية، وهند بنت عتبة، وأبي سفيان بن الحارث.. وغيرهم،
وحين مات ابن سلول كفنه في قميصه، وتفل في فمه من ريقه، وأنزله في قبره لعل الله
يرحمه؛ فنهاه الله عن ذلك بقوله: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم
مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ) (التوبة: 84).
خامساً: شهادته
بما علم من الخير لبعض أهل الكفر؛ قد جرت عادة الناس -إلا من رحم ربي- أنهم يغمطون
المخالفين حقوقهم ويجحدون ما فيهم من حَسَن الصفات وكريم السجايا، لكن محمداً صلى
الله عليه وسلم بما طُبع عليه من مكارم الأخلاق ما كان يرى غضاضة في أن يشهد
لمخالفيه بما يعلم عنهم، ولا يبالي بأن يعلن ذلك على الملأ.
ومن ذلك أن
سفانة بنت حاتم الطائي لما وقعت في الأسر وذكرت أباها، وما كان عليه من شرف الحال
وطيب المعدن، قال عليه الصلاة والسلام: «أطلقوها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق
ولو كان مسلماً لترحمنا عليه»، وكذلك قوله يوم «بدر» في شأن الأسرى: «لو كان
المطعم بن عدي حياً لوهبتهم له»، وقد شهد في الجاهلية «حلف الفضول» حين تعاقدت
قريش على نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، قال عليه الصلاة والسلام: «لقد شهدت في دار
ابن جدعان حلفاً ما يسرني أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت».
سادساً: حرصه
على شعور الناس ألا يجرحهم بكلمة؛ ويتضح هذا حين فتح الله عليه مكة ودخلها ظافراً
منتصراً هرب عكرمة بن أبي جهل، الذي كان -وأبوه من قبله- شديد الضغن عظيم العداوة للنبي
صلى الله عليه وسلم، وقدَّر الله عليه أن يركب البحر ليغادر جزيرة العرب؛ فاضطرب
بهم البحر، وبدأ من معه من المشركين يدعون الله ويستغيثون به حين عاينوا الخطر؛
هنا استيقظت فطرة عكرمة فقال: إن كان لا يُنجي في البحر إلا الله فإنه لا ينفع في
البر إلا الله! لله عليَّ إن نجاني أن آتي محمداً وأضع يدي في يده فلأجدنه رؤوفاً
رحيماً! وفي طريقه إلى المدينة علم النبي صلى الله عليه وسلم -عن طريق الوحي- بأن
عكرمة آت؛ فقال لأصحابه: «سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل فلا تسبوا أباه؛ فإن السب يؤذي
الحي ولا يضر الميت».
سابعاً: حسمه
مادة الشر حين لا يبقى سبيل سوى ذلك؛ فحين تمادى عدو الله عقبة بن أبي معيط في
الأذى والصد عن سبيل الله أمر عليه الصلاة والسلام –عقيب معركة «بدر»- بإخراجه من
بين الأسرى وضرب عنقه، ولما قال له مستعطفاً: أنا من بين الناس يا محمد؟ قال: «نعم»،
قال عقبة: ولمَ؟ قال: «بأذيتك لله ورسوله»، ثم وجه الكلام لأصحابه قائلاً: «إن عدو
الله هذا رآني ساجداً عند الكعبة فوضع رجله على عنقي وغمزها؛ حتى كادت عيناي
تندران»، وذلك حين أمر بقتل النضر بن الحارث، ومن كان مثلهم في الشر كيهود بني
قريظة.