ثم كذَّبوك يا محمد ﷺ (3)
هزيمة جيش بحفنة تراب!

ما أن انتهى شهر
رمضان في العام الثامن الهجري، وانتهى معه صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، ومالت
جموع العرب له ودانت لدعوته، حتى علم بأن هوازن وثقيف قد أجمعا أمرهما على حربه،
فقد سمع التاريخ بعضهم يقول: «قد فرغ محمد من قتال قومه ولا ناهية له عنا فلنغزه
قبل أن يغزونا»، وولَّوا أمرهم مالك بن عوف النصري الذي اجتمع له من القبائل جموع
كثيرة، فأمرهم بأن يخرجوا للحرب بالنساء والذرية والأموال، وقال: «سقتُ مع الناس
أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم».
وأدار التاريخ
بصره إلى مكة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد جمع أمره على الخروج لحربهم، فما
كانت طبيعته الشريفة لتجعله يترك أمرًا يتهدد رسالته بالخطر دون أن يسعى لمواجهته،
فجهز نفسه بلباس الحرب، ثم ركب بغلته الشهباء مؤْذِنًا بالمسير في اثني عشر ألف
مقاتل، منهم ألفان من طلقاء مكة، وبينما الجيش المبارك يطوي أديم الصحراء إلى
مرامه، كان للشيطان دوره فراح ينفث في الصدور ولم يستطع بعضهم كبح جماحه فقال: «لن
نُغْلب اليوم من قلة»(1)، وليس من شك في أن الرجل كان سعيدًا بكثرة
المسلمين وكان يشعر بما يمكن تسميته بالثقة، ولكن الشيطان نفث في ثقته وجعله على
يقين بالنصر وردّ الأمر في ذلك للعدد والعُدَّة، ولم يردَّه إلى قدرة الله تعالى.
ولأن عمل
الشيطان هو إفساد كل ما هو جميل في صدر الإنسان، فقد ترامت العبارة في نفوس الكثير
من المسلمين، وانفعلت بها أفئدتهم، فخلعت عليهم أثرها من التراخي وعدم الحيطة
للمعركة، فكان الغرور سببًا واقعيًا لما حدث في بداية المعركة، فقد كان وما زال
وسيظل قضية كبرى من قضايا الفشل، ولا يُكتب النجاح في ميدان من ميادين الحياة إلا
إذا اتسم الإنسان بالحيطة اللازمة والمقرونة بالتواضع، ولا يفوتنا أن جيش المسلمين
كان به الكثير من حديثي العهد بالإسلام ولم تمتلئ قلوبهم بعد بشجاعته، وكان به
أيضاً بعض المنافين من الطُلقاء والذين ما دخلوا الإسلام إلا رغبة أو رهبة، وسيان
عندهم نصر الإسلام وهزيمته.
وما أشرف صلى
الله عليه وسلم بالجيش على وادي حنين إلا بعدما سَرَى الليل ودخل الوقت في الغلس،
وكان المشركون قد سبقوهم إلى حُنين وكمنوا لهم في مضايق الوادي وشعابه تنفيذًا
لخطة قائدهم مالك بن عوف الذي قال: «أيها الناس، إذا رأيتم الصّباء فاكسروا جفون(2)
سيوفكم وشدوا عليهم شدة رجل واحد».
لذا، ما أن
انحدر المسلمون في الوادي حتى برز المشركون فجأة وبادروهم حاملين عليهم حملة رجل
واحد، ولم يشعر المسلمون إلا برشق نبالهم التي انثالت عليهم أسرابًا تزرع الفراغ
بين الجيشين، «وإن هوازن كانوا قومًا رماة»، ثم أعملوا سيوفهم في المسلمين، وبُهت
المسلمون، وتفرقت صفوفهم الأمامية، ولووا أعنة الخيل مدبرين يصيحون ويتخبطون،
وتبعتهم باقي الصفوف في الهزيمة، وتبعهم المشركون وقد أيقنوا أنه قد حان الحين
لإسكات دعوة الإسلام، فاتبعوهم وفي قلوبهم الحقد يغلي، يسوقهم لما يفعلون طبيعة
الشرك إذا وجد فرصة على الإيمان، وطبيعة الشر إذا ألفى سانحة على الخير، حتى قال
أحد المشركين الذين شهدوا المعركة بعد إسلامه: «لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاه».
وأنزل عز وجل
سكينته على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه ثمة علاقة قوية بين الشجاعة وقوة
الإيمان، ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته، وثبت معه القليل من المسلمين،
وتجلت شجاعته صلى الله عليه وسلم وتبدى إقدامه، وجعل يحثّ بغلته على المضي قدمًا
صوب المشركين ليس لقوة هوازن في نفسه أي أثر، ولا لمهارة رماتها في قلبه أدنى اعتبار،
والعباس رضي الله عنه آخذًا بلجام البغلة تجذبه للأمام من أثر حثّه صلى الله عليه
وسلم لها على الإقدام، ويجذبها للخلف شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُبين
عظمة القيادة، ويعتزم أن يُبصِّر المسلمين
بالنصر فيصيح: «إليَّ أيها الناس، أنا عبد الله ورسوله، أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب»،
وجعل يرددها وكله ثقة في الله وشعوره بتأييده له أتم ما يكون.
لقد كان يفكر
كنبي، ويحس كشجاع، ويتصرف كقائد، ورفع بصره الشريف إلى السماء وجعل يستنصر ربه: «اللهم
أنجز لي ما وعدتني»، ثم التفت إلى العباس قائلًا: أي عباس، نادِ أصحاب السمرة(3)»،
وكان العباس جهير الصوت فرفع عقيرته: «يا أصحاب بيعة رضوان»، وتجلت قدرة الله في
صوت العباس، فلاقى آذانًا صاغية وقلوبًا واعية، فثابوا إلى رشدهم، وآبت إليهم
شجاعتهم، وأجابوا العباس: «يا لبيك يا لبيك..».
ولشدة حرصهم على
سرعة العودة، كان الرجل يهبط من فوق بعيره لصعوبة التفاته به من شدة الزحام،
وييممّ شطر الصوت، وقبل أن يلتفَّ المسلمون حوله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن
يثبوا على جيش المشركين كان الله قد هيأ لهم النصر باليد الشريفة وبحفنة تراب،
فبينما كان المسلمون يسرعون صوب الصوت، أحس صلى الله عليه وسلم بجنود المشركين قد
غشيته، فمال عن بغلته ليأخذ كفًا من تراب، فلحقه عبدالله بن مسعود قائلًا: «ارتفع
رفعك الله»، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ناولني كفًا من التراب»،
وأخذها صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، وأبصر جنود هوازن المقبلة نحوه كالسيل،
وقال: «شاهت الوجوه»، ثم ضرب بها وجوههم مكملًا: «انهزموا ورب محمد»(4).
وبدت قدرة الله
في حفنة التراب، وبانت فيها أسرارها، فما تركت أحدًا من المشركين إلا وملأت عينيه
وفاه، حتى إن يعلى بن عطاء قال: «فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: فلم يبق
منا أحد إلا امتلأت عيناه وفاه ترابًا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض».
وكيف تملأ حفنة
تراب عيون وأفواه جيش بأكمله؟! ومتى أضعفت ذرة تراب فارسًا يقاتل وخلفه أهله
وماله؟! هذه الصورة المعجزة تلفت الأنظار بشدة إلى معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم
تزيد آيات نبوته ثراء وغنى، وتزيد إيمان المؤمنين به قوة وخصوبة، وتلفت أنظار
الكافرين إليه، وطار نبأ حُنين في شبه الجزيرة وقتذاك.. ولكنهم كذبوك يا محمد!
وليس من بد أن
نقول: لأن معركة «حنين» كانت من أشد المعارك الإسلامية وأخطرها في تحديد مسار
الرسالة، ولأن الله أراد لدعوة الإسلام أن تستمر ولا يلويها عن سيرها شيء، فقد
أنزل عز وجل مدده من السماء وانتشرت الملائكة في الوادي، فقد حدث جبير بن مطعم عن
ذلك قائلًا: «إنَّا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم «حنين» والناس يقتتلون،
إذ نظرت إلى مثل البجاد(5) الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين
القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، وما كنا نشك أنها
الملائكة.
ولو تتبعنا كلمة
الرجل الذي قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله يوم «حنين»، لم يقوموا لنا حلب
شاه؛ لوجدناه عقّب بعدها قائلًا: «ولما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى
انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانا
عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فانهزمنا وركبوا
أكتافنا فكانت إياها»، وما هؤلاء الرجال الحسان إلا الملائكة، وقوة الملائكة ما
لها من دافع.
ومن المؤكد أن
المشركين كانوا يحسون ضرباتهم ولا يستطيعون لهم لمسًا، وخلَّد الكتاب الخالد ما
حدث فوق وادي حنين: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (التوبة).
واشتد الحدث
وحلَّق صداه فوق كل الأمكنة والأزمنة قرونًا بعد قرون، وما زالوا يَكْذِبون ويُكَذِّبون،
وما زلنا نحن نقول: ثم كذَّبوك يا محمد!
حتى نسي بعض
المسلمين الحسنيين؛ النصر أو الشهادة؟ وفقدوا الإجابة عن السؤال: متى فرّ مسلم من
كافر؟
إن الصورة تبدو
حزينة قاتمة، وبعد مُضيّ وقت يعلم الله أمده ستتغير ويتبدل إطارها، ستشرق وتُضيء
وتزهو أنوارها، وسبحان من سَيُغيِّر ويُبَدِّل(6).
_________________
(1) أخرجه
الترمذي في صحيحه (1689) وقال الألباني: إسناده صحيح.
(2) الصباء: جمع
صابئ؛ وهو المائل إلى دين غير دين آبائه، جفون: جمع جفن؛ وهو غمد السيف.
(3) أصحاب
الشجرة؛ ويقصد صلى الله عليه وسلم أصحاب بيعة الرضوان.
(4) حديث صحيح،
أخرجه البخاري (4315)، ومسلم (1775)، وابن حبان (7049).
(5) كساء مخطط،
مفرد بُجُد، وذلك كناية عن هبوط الملائكة من السماء في صفوف منظمة.
(6) انظر: تفسير
ابن كثير، وتفسير الطبري للآيتين (25، 26) من سورة «التوبة»، الكامل في التاريخ
لابن الأثير (2/ 133)، الفصول في سيرة الرسول لابن كثير، ص205، الرحيق المختوم، ص220
- 432.