قبل أن تغرق السفينة

لقد استحكمت الغفلة على القلوب، وامتلأت الدنيا بالمعاصي والذنوب، وانتشر ريحها وتطاير شررها وطار أمرها عاد حتى لا تكاد تسمع إلا ما يصم الآذان ويملأ القلوب بالأحزان ويكمد الفؤاد وتتفتت لأجله الأكباد، فنحن في غفلة أغلقت عنا ريح القلوب الطيبة، وقذفت بنا في بيداء مظلمة جعلت كثيراً منا يتناسى الله والدار الآخرة، ويلهو عما في القبور من العظام الناخرة حتى غرقت السفينة وضاعت في بحار الغفلة الباخرة، ومن المعين الذي لا ينضب والبستان الذي لا يذبل، والنور الذي لا يخبو نقتطف زهرة من بستان السُّنة المطهرة تشخص الداء وتصف الدواء.

عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا» (صحيح البخاري، 2493).

ومع رشفة من هذا اليم الواسع، وحافة من حواف العلم النافع، نقتطف جملة من بديع الفوائد وفرائد القلائد من الدروس النبوية البديعة، والأخلاق الإسلامية الرفيعة، نستلهم مبادئنا وأصول منهجنا ممن جعله الله رمزاً للكمال وبدراً في التمام رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

خصائص التعليم في عهد النبي ﷺ

مداد القرآن وأنفاس العدنان

أساليب التربية والتعليم وطرق التدريس والتوجيه ومجالاتها النافعة ترجع بجذورها إلى أستاذ البشرية صلى الله عليه وسلم، الذي قدم منهجاً تربوياً فائق الإحكام وغاية في الإتقان.. إنه صلى الله عليه وسلم أعظم مربٍّ ومعلم أثر في شعوب وأجيال تبقى ما بقي على ظهر الحياة إنسان، وصدق معاوية بن الحكم السلمي حين قال: «ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه» (صحيح مسلم، 537).

لقد استخدم صلى الله عليه وسلم الطريقة المثلى في التوجيه والتعليم، فاستخدم طريقة ضرب المثل بالشيء المحسوس لفهم وتقريب الشيء المعقول؛ وذلك لتوضيح الصورة وتقريبها في ذهن السامع أو المخاطب، وهي طريقة القرآن الكريم ابتداءً؛ قال جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة: 26).

وقد استخدم صلى الله عليه وسلم أساليب أخرى مثل السؤال والجواب، والتشويق والتنبيه، والإلقاء والتلقي.. وغيرها كثير في حديقة السُّنة المطهرة الغناء، وهذا باب عظيم للدعاة يتعلمون منه كيفية توظيف المثل في إقناع واستمالة المدعوين بالترغيب تارة والترهيب أخرى، والبشارة والنذارة، بل وللمربين والمعلمين للناشئة في عمر الزهور كل في ميدانه وحسب قدراته وإمكاناته.

قيود شرعية وضوابط مرعية

الإنسان المسلم يسير وفق منهج رباني محدد، لسان الميزان فيه «افعل ولا تفعل»، وهو منهج وضعه مالك القوى والقدر حتى تتحقق العبودية له سبحانه، فلا يجوز بحال من الأحوال أن يخالف الإنسان هذا المنهج السوي ويتحرك هكذا خبط عشواء بحجة الحرية المزعومة والمرفوضة، أرأيتم إشارات المرور التي يحرص المسؤولون في كل بلد على وجوب الالتزام بها؟ هل يستطيع إنسان ما أن يخالف إشارات المرور بحجة أنه حر؟ كلا، فلها قانون رادع وعقوبة زاجرة.

وقد فهم بعض المستخِفِّين الحرية فهماً خاطئاً؛ بمعنى افعل ما تشاء بما تشاء ومتى تشاء! إطلاق بلا تقييد وإفراط معه تفريط، وماذا لو فتحنا الباب لأمثال هؤلاء وأولئك؟ إنه باسم الحرية الشخصية سيسرق السارق، ويزني الزاني، وتخرج النساء سافرات عاريات، ويعق الولد والديه، بل سيُستهزأ بالله جل جلاله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم! وهذا ما أثبتته وقائع الأيام.

ثم، ما النتيجة؟ وجود مجتمع منحرف لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ويحل خراب ودمار، وذل وافتقار، وحيرة شديدة كحيرة الذي استهوته الشياطين، فهذا الذي أراد أن يخرق في نصيبه خرقاً ليحصل على الماء من مكان قريب، ماذا لو تركه الرفاق والأصحاب؟ إذن لهلكوا جميعاً أو كانوا مجانين، لأنهم قدموا الحرية الشخصية لفرد على حياة وأرواح الجماعة، لكن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، إذن فالحرية لا بد لها من قيود شرعية تحكمها وضوابط مرعية تقيدها.

التكافل والتراحم والتضامن.. مقومات أساسية للدولة المسلمة

بين المصلحة العامة والخاصة

التعاون بين الناس لحمة الإسلام وسداه، ولبه ولبابه، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي في سلم النهوض والازدهار إلا بتعاون أفراده فيما بينهم حتى يصبح نداء كل منهم لصاحبه: يا أنا! وإذا رفعت الأنانية والفردية حلت روح المسؤولية الجماعية قال جل ثناؤه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).

والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل الكامل في التعاون على البر والتقوى مع أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وظهرت روح المشاركة في بناء المسجد النبوي الشريف وفي حفر الخندق؛ حيث كان يحمل التراب مع أصحابه، وتنافس الجميع فيما بينهم، وفي الحديث الذي نحن بصدده لو تعاون أهل العلو مع السفل في مطلبهم لغرقوا جميعاً، إذن لا بد من تقديم المصلحة العامة على الخاصة، وماذا لو قدم كل مسلم مصلحة دينه على مصلحته، والتمكين له في أرض الله الواسعة على مآربه ومطامعه؟

الجار قبل الدار

الجوار في الإسلام مأمور به، وللجار حق وحرمة، وإن من نعم الله تعالى على الإنسان أن يرزق بجار صالح يكون بمنزلة الأخ والصديق، فحقاً الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق.

ومن منغصات العيش وكدر الحياة أن يُبتلى الإنسان بجار سوء، إن رأى خيراً دفنه، وإن رأى عيباً أو شراً أذاعه ونشره، والصبر على أذى الجار وتحمل هناته لا يرقى إليه إلا من أوتي خليقة محمودة وسيرة زكية، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» (صحيح البخاري (5/2240)؛ يعني أن تبسط إليه معروفك وتكف عنه أذاك.

وفي الحديث الذي معنا صورة عظيمة للصبر على إيذاء الجار، فلقد صبر أصحاب العلو على الأذى الناتج من مرور أصحاب السفل عليهم للحصول على الماء، مع تكرار الصعود والهبوط، يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: «ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه منه ضرراً لزمه إصلاحه، وإن لصاحب العلو منعه من الضرر»(1).

قطب الدين الأعظم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم المهمات وأفضل القربات، وهو عنوان خيرية الأمة وكرامتها، وهو قطب الدين الأعظم وحجر الزاوية في بناء الإسلام الشامخ، قال جل ثناؤه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).

سفينة النجاة للمجتمع

ومن الفوائد الثمينة في حديث السفينة أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يترتب عليه تعذيب العامة بذنوب الخاصة، فإذا سكت الصالحون مع قدرتهم على التغيير عم العقاب الجميع، ثم يبعثون على نياتهم؛ لأن الساكت بمنزلة الراضي، وإن كان الساكت عن الحق شيطان أخرس، فإن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.

وهذا توجيه جميل من عالم رباني قال فيه: «واعلم أن هذا الباب -أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63)؛ فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عزّ وجل أن يعتني بهذا الباب(2)، والله من وراء القصد.

 




_________________

(1) فتح الباري (5/ 349).

(2) صحيح مسلم (1/ 300-301). 

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة