ثم كذَّبوك يا محمد ﷺ (5)

معجزة بئر ذروان

النبي صلى الله عليه وسلم مستغرقاً في الابتهال إلى ربه يستعينه ويستفتيه، وقد علت السيدة عائشة رضي الله عنها سحابة حزن ممرور شرد بنظراتها وأبان فيها قلقًا عميقًا نأى بجسدها وقلبها عن الراحة والسبات، كان النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا، أصابه الأذى بطريقة ما، وأحست هي بشيء قد اعتراه، وجلب عليه تغييرًا مفاجئًا لا تستطيع أن تفهمه، أو تدري كنهه، ولكنها تحسه وتدركه في حدود ما تراه وما تسمعه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُخيَّل له أنه يفعل الشيء وما يفعله، ولشدّ ما أعياها البحث عن مبررات ذاك التغيير، ولكن أنَّى لها أن تعلمه وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلمه! ولا ريب أن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن اشتركن معها في رحلة السهد والأرق ومحاولات العلم بما وراء هذا التغيير.

وتمضي الأيام يدفع بعضها بعضًا(1) والأمر منطوٍ على سرِّه، ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شعر بشيء ما في نفسه، وشاهد ذلك أنه في تلكم الليلة المباركة أكثر الدعاء لله وأطال الابتهال إليه، جعل يستفتيه ويستعلمه عمّا به، وجنَّت الليلة بين ثناياها معجزة مباركة عندما تجلَّت قدرته عز وجل وأعلم نبيَّه عما استعلمه وأفتاه فيما يستفتيه.

فقد استقبل صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة، قائلًا: «يا عائشة، أشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفيته فيه؟»، وهدّأت كلمته صلى الله عليه وسلم روعها، وألقت عن كاهلها ما أثقله، ولا شك أن السعادة كانت تشيع في نفسها فنوناً وألواناً وهو يُبيّن لها كيف منّ الله عليه بتوضيح الأمر، وهيأ له مطلبه لمّا أرسل له ملكين كريمين، استقر أحدهما عند رأسه، والآخر عند قدميه، ثم قال أحدهما للآخر: «ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب(2)، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟، قال: في مشط ومشاطة(3) وجف طلعة ذكر(4)، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان.


هل يبكي الجماد؟! |  مجلة المجتمع الكويتية
هل يبكي الجماد؟! | مجلة المجتمع الكويتية
جِذْع مُكَرَّم أتى به القدر مرة واحدة وما أتى بمثل...
mugtama.com
×


لنتألم، ونتأمل هذي المعجزة التي حدثت ليلتذاك، ثم ملأت الدنيا بروعة وبساطة، لنتأمل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد لنا منهج النجاة من إحن(5) الأيام، وعوادي(6) البشر، فمن يلجأ إلى الله يهيئ له الملجأ، ومن يطلب غوثه فغوثه لابد آتٍ؛ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) (الأنفال: 9).

ولكن لماذا اختار لبيد اليهودي السحر دون غيره لإلحاق الضرر بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! لأنه شرّ يدبر في الخفاء، وهم دائمًا يتوارون ليفسدوا، ولا ينطوي خبثهم في نفوسهم، ولكنه يتمدد وينضح منها على الآخرين، وهم أعلم الناس بالسحر، وكأنه تراث مشترك يتوارثه أبناء يهود مما خلَّف آباؤهم.

ولأن الحسد سبب رئيس من أسباب السحر، وكان داء الحسد قد أزمن بفؤاد لبيد بن الأعصم حتى أَلِفَهُ، واستعرت نيران نفسه بغليله على الإسلام ورسوله، فعمد عن طبع ورغبة إلى هذا الإثم المذموم وراح يحلم بأمنيته في إلمام الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمثله يسعد برؤية خبثه على الآخرين، وإذا فارقهم ينعم بالتفكير فيه.

وقد قال بعضهم: ربما أثَّر السحر على تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة، وأحدث اللبس لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال تساعده على تمييز ما يحدث بوضوح، فأحني هامتي إجلالاً، وأترك المجال إكبارًا للإمام النووي ليقول: «فزعم أنه يحطّ منصب النبوّة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل، لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ.. فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبْعث بسببها، ولا كان مفضلًا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يُخيّل له من أمور الدنيا ما لا حقيقة له.. وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل: إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكنه لا يعتقد صحة ما يتخيله»(7).

وقال القاضي عياض: «وقد جاءت روايات هذا الحديث مبيّنة أن السحر إنما تسلط على جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه ومعتقده.. وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشيء ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل في العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبسًا على الرسالة ولا طعنًا لأهل الضلالة»(8).

وعلى أي حال، فإن كل شيء بإرادة الله، ولا ريب في أنه سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد حفظ رسالته وحفظها وطمأن أفئدتنا؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

ونحن لا نلوم لبيدًا على تردِّيه في فعله الخاطئ، فليس بعد الكفر ذنب، ولئن أزعج حياة النبي صلى الله عليه وسلم الوادعة واقترب خطوة من الأذى الذي يبغيه له صلى الله عليه وسلم، فإن قدرة الله لم تُهيئ له بغيته، فمهما أبدى الفاعل فعله وغيَّب شخصيته فإنها لا تغيب عنه عز وجل، وبقدر ما يُثيرنا الأمر ويغضبنا، ويترك بين جوانحنا أثرًا سيئًا تنكأه دائمًا سيرة اليهود بقدر ما يعجبنا ويرضينا لكونه دلالة بينة على صدق نبوته.

وهكذاـ فالأمر يُحْسَب له صلى الله عليه وسلم ولا يُحْسب عليه، يُرَقِّي قَدْرَه ولا يغضَّه، يُثبت عصمته ولا ينفيها، كما يُحسب رسالة لنا منه سبحانه فحواها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُصيب بالسحر بإذنه؛ (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 102)، وأنه وقع له صلى الله عليه وسلم لنعلم حقيقة وجوده، وكيفية العلاج منه، وأنه كما هو قدوتنا في الخير، فهو قدوتنا في المرض والوجع، والسحر والحسد ولكي نصدق بهذا وذاك.


هل يبكي الجماد؟! |  مجلة المجتمع الكويتية
هل يبكي الجماد؟! | مجلة المجتمع الكويتية
جِذْع مُكَرَّم أتى به القدر مرة واحدة وما أتى بمثل...
mugtama.com
×

وأتى الحبيب صلى الله عليه وسلم والأحبة عليّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمار بن ياسر بئر ذروان، فوجدوا ماءه متغيّر اللون، شديد الحمرة كأنه نقاعة الحناء، ونزحوا ماء البئر، ووجدوا السحر تحت صخرة في قعره في جف نخل، ووجدوا في الجُف مشطًا للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض الشعر الذي سقط من رأسه الشريف ولحيته أثناء تسريحه، تمامًا كما أخبرته ملائكة ربه، وفيه وتر معقود فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر(9)، ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين، وجعل صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة، وجعل جبريل يقول: «باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك»(10).

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله قد عفاه وأنه يخاف من إخراجه وإحراقه، وإشاعة هذا ضررًا وشرًا على المسلمين مِنْ تَذكر السحر أو تعلمه وشيوعه والحديث فيه، أو إيذاء فاعله، فيحمله ذلك، أو يحمل بعض أهله ومحبيه والمتعصبين له من المنافقين وغيرهم على سحر الناس وآذاهم وانتصابهم لمناكدة المسلمين بذلك(7).

وهذه أمنا عائشة تحكي صورة من صور إيذاء اليهود له صلى الله عليه وسلم، تقول رضي الله عنها: سحر الرسول صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا، ثم قال: «يا عائشة، أَشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان».

قالت: فآتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُناس من أصحابه، ثم قال: «يا عائشة، والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين»، فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: «لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرًا، فأمرت بها فدفنت»(11)(12).

وكان على اليهود بعدما كشف الله لك يا حبيبه السحر وكيف كان، والساحر والمكان أن يرشدوا لنبوتك، ولكنهم كذَبوك يا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

 

________________________

(1) قيل: إن الأمر استمر قرابة 6 أشهر.

(2) مسحور.      

(3) بعض شعره الشريف الذي تساقط من رأسه ولحيته أثناء تسريحه لهما.

(4) الغشاء الذي يكون على طلع النخل.

(5) محن.         

(6) أذى.

(7) صحيح مسلم بشرح النووي على الحديث.

(8) فتح الباري (10/ 226).

(9) هذا ما يسميه الناس بالعمل الذي يعمله الساحر.

(10) حديث صحيح: أخرجه مسلم (2186)، والترمذي (972)، وابن ماجه (9523).

(11) أي بالبئر فَرُدِمت.

(12) حديث صحيح أخرجه البخاري (3268)، ومسلم (2189).


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة