رسائل القرآن إلى الإنسان.. كيف خاطبت الآيات أعماقنا؟

آيات القرآن سبب إبصار
حقائق هذا الوجود عامة، قال الله تعالى: (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
(الجاثية:20)، وهي سبب فهم النفس وتبيان سبيل الرشاد والغي لها خاصة، وفيما
يلي نتلمس كيف خاطب القرآن أعماق نفوسنا، حتى نهتدي بهديه ونسير على منهاجه.
أولًا: الخطاب الإنساني في القرآن
يتميز القرآن الكريم
بأنه يخاطب الإنسان بصفته مخلوقا مكرما، محاطا بالرحمة الإلهية، مسؤولًا عن أفعاله
واختياراته، ولذلك فإن آيات القرآن تحاور الإنسان بصور متعددة، فتارة تخاطب عقله
بالحجج والبراهين، وتارة تخاطب قلبه بالمواعظ والعبر، وأحيانا تخاطب وجدانه بالمشاهد
التصويرية التي تجسد المواقف لتقرِّب الحقائق.
1- الخطاب العقلي:
يظهر ذلك الخطاب في عدة
صور، منها:
- إثارة الفكر والتأمل،
لأجل معرفة الله وزيادة الإيمان، يقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)
(الروم:8)، وهذه الدعوة للتفكر حث عملي للإنسان على البحث عن الحقيقة، وقال
تعالى: (سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ) (فصلت:٥٣)، فكم ضل الهدايات من فوَّت التفكر في الآيات!
- بيان الحجج والبراهين
من الطبيعة، مثل ما جاء من حجة إبراهيم على النمرود التي ذكرها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
- طرح القرآن للأسئلة
المفتوحة التي تحفز العقل على البحث، مثل قول الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ
اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) (القصص:71)، فاستخدام
أسلوب التساؤل يضع الإنسان أمام مكاشفة صريحة أمام نفسه، فلا يكون اختياره بعدها
لأحد الطريقين إلا عن سبق قصد وإصرار.
2- الخطاب العاطفي:
وإلى جانب الخطاب
العقلي، يلامس القرآن مشاعر الإنسان، فيواسيه عند الضعف، ويذكره برحمة الله، ويفتح
له أبواب الأمل بالصفح والغفران، فهو خطاب تأثير وتنبيه يفتح القلوب لتستقبل
المعرفة، ومن ذلك:
- بيانه العدة التي
يصبر بها المؤمن على البلاء الحاصل لا محالة، والذي جاء في قول الله تعالي: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ
الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا) (النساء:104)، فبين أن المسلمين وأعداءهم مشتركون في الشعور
بالألم والمشقة، ولكن المسلمين متفوقون على عدوهم بما يرجونه من الله من ثواب ونصر
وجنة في الآخرة، وذلك لتمتلئ القلوب بالسكينة وتثبت على العزيمة.
- مخاطبة النفس بأسلوب
العتاب الذي يحرك مشاعر الخجل من المعصية، ويدفع لتجنب الوقوف أمام الله بمثل هذه
الصورة، مثل قول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:٦-٧).
3- الخطاب الوجداني:
يستخدم القرآن الكريم
الأسلوب التصويري ليُشعر بالحقائق وكأنها ماثلة أمام العين، ومن ذلك:
- يصور الله حال الدنيا
وبيان حقارتها أمام عظمة من خلقها، وذلك ليدرك العبد حقيقتها ويتيقن من زوالها،
قال الله تعالى: (إِنَّمَا
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا
أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) (يونس: 24).
- المقارنة بين حال أهل
التقوى وأهل الفساد بتصويرهم كأصحاب بنانين أساس كل منهما مختلف، قال الله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 109).
ثانيًا: أهداف الخطاب الإنساني في القرآن
وقد استخدم القرآن
الوسائل السابقة لتثبيت رسائله في أعماق النفوس، ولا يمكن حصر هذه الرسائل من
كثرتها، نذكر منها تمثيلًا:
1- معرفة الله: فالقرآن
يبدأ بالحجج والبراهين التي تثبت وجود الله تعالى وتوحيده، ثم ينتقل إلى الترهيب
والترغيب في الإيمان بذلك، وبيان فساد العقول التي تجحده، وإنه لعظيم التأثير، حتى
ليتجلى عمق تأثيره في اختراق القلوب الضالة مهما رفضت الإيمان، يحكي مطعم بن جبير
قصة إسلامه فيقول: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقْرَأُ في
المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ. أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 35-37)،
قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ! (رواه البخاري: 4854)، فكيف أثر فيه رضي الله
عنه سماع التذكير بأفعال الله سبحانه وتعالى من خلق ورزق وتدبير للكون، واستحالة
تصورات من لم يؤمنوا به وشديد فسادها، حتى لم يبق له خيار إلا الإيمان به عز وجل.
2- ضبط التصورات
الوجودية: إن القرآن لم يترك الإنسان لحيرته أمام التساؤلات الوجودية، مثل الغاية
من الخلق والحياة والموت وما بعده... فقد تناولها القرآن بأسلوب يجمع بين الإقناع
العقلي والخطاب الروحي، وبين للعباد ما كلفهم به، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل،
وهذا كثير، منه قول الله تعالى: (اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي
قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود:61)، ففي آية واحدة بيّن خلقه العباد من العدم،
واستخلافهم في الأرض ليعبدوه، وأمرهم بألا يشركوا مع الله أحدًا في عبادته،
ويستغفروه ويتوبوا إليه من الشرك والمعاصي، وأنه عز وجل قريب مجيب لعباده، وهذا
خطاب عظيم موجز هاد إلى إجابة التساؤلات بوضوح.
3- تزكية النفس
وتطهير القلب: يولي الإسلام أهمية كبرى لتزكية النفس وتطهير القلب، لما لها من أثر
شديد على حياة العبد، فعليها مدار فلاحه في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى:
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس: ٩-١٠)، فالعبد بحاجة دائمة
إلى التهذيب والتصفية من الأمراض القلبية كالحقد والحسد والغرور وغيرها، وإحلال
الحسن مكانها كالإخلاص والتواضع والمحبة وغيرها، وقد جعل الإسلامُ الإيمانَ الصادق
والعملَ الصالح وسائل رئيسية لتحقيق سلامة القلب من جميع الآفات.
وختامًا؛ فإن القرآن خطاب حي يتفاعل مع أعماق النفس البشرية في كل زمان ومكان، إنه رسالة تهدي إلى طريق النور، تذكر بغاية الوجود، وتعين على تجاوز العقبات في الحياة، ولذا فإن تدبر القرآن والاستماع إلى رسائله العميقة هو السبيل للوصول إلى السكينة والطمأنينة والقرب من الله تبارك وتعالى.