فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّا

لا شك أن الله تعالى حذرنا في أول سطور خطاب التكليف الإلهي لآدم وزوجه حين أهبطهما إلى الأرض مع إبليس الذي أغواهما في التجربة الآدمية الأولى، من عدو متربص ومنهجية قائمة لا تتوقف، قال الله تعالى: (اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (الأعراف: 24)، وهذا العدو ليس مجرد شيطان من الجن فحسب، بل هي منهجية متكاملة يتنافس فيها شياطين الإنس والجن على إنجاحها، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام: 112).

وقد رسم القرآن منهجية غاية في الوضوح للتعامل مع العدو المتربص، وأرسى قوانين راسخة، بل إن الأمة لم تهزم في معركة مع عدوها إلا بمخالفتها قانوناً أو أكثر من تلك القوانين.

فالقرآن أوضح بداية ميدان المعركة الأصيل وهدفها المعلن؛ حتى لا يتردد متردد، ولا يتماهى متكاسل، فقد قال تعالى عن هدف تلك المعركة المستمرة على مدار العصور والأزمنة: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة: 217).

لا ينبغي للمسلم أن يتخذ العدو المتربص ولياً أو صديقاً أو يجهل مخططاته أو يتماهى مع كفره وفجوره

فعداوتهم قد تظهر في نهب اقتصادي، أو إفساد اجتماعي، أو استبداد سياسي، أو انحراف قيمي، أو غير ذلك، ولكن الهدف الأصيل من عداوتهم هو تلك العقيدة التي يحملها المسلم في قلبه، لذا قال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) (النساء: 89)، وقال سبحانه: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: 120).

وقد رسم لنا القرآن خريطة للتعامل مع العدو المتربص، تبدأ خطواتها الأولى بمعرفة حقيقة عداوته وخطورته واتخاذه عدواً، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) (فاطر: 6)، ولم يكتف القرآن ببيان ذلك، بل أردفه ببيان الواجب فقال: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر: 6)؛ فلا ينبغي للمسلم أن يتخذ العدو المتربص ولياً أو صديقاً، أو يغفل عن عداوته، أو يجهل مخططاته، أو يتماهى مع كفره وفجوره.

وقد بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللأمة على مدار عصورها منهجيات العدو؛ لندرك حجم خطورة المعركة وطبيعة الطريق، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 55).


التدرُّب على تدبُّر الآيات واستخلاص الواجبات العملية |  مجلة المجتمع الكويتية
التدرُّب على تدبُّر الآيات واستخلاص الواجبات العملية | مجلة المجتمع الكويتية
رأينا في المقالة السابقة كيف كان علماؤنا يفحصون ال...
mugtama.com
×


وهناك واجبات نجمل أهمها فيما يأتي:

الأول: الإعداد:

يجب على الأمة أن تقوم بواجب الإعداد لمواجهة العدو؛ حماية لثوابتها من إجرامه، ولمقدساتها من اعتدائه، قال تعالى في تكليف بالغ الوضوح: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)؛ فعلى الأمة أن تجعل من هذا التكليف خطة عملية في كل أحوالها، وألا تتخلف عنه بحال، والمسلم مع واجب الإعداد لا يخلو من حالة من ثلاث:

1- ميدان الوغى: إن كان المسلم في ساحة الحرب مدافعاً عن عقيدته وعرضه ومقدساته، فهو مجاهد على أعلى درجات الجهاد، فله منزلته حينذاك بالفوز بإحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة.

2- ميدان الإعداد: إن لم يكن في ساحة القتال مباشرة، وانشغل بتوفير وسائل الإعداد المتاحة ومجالاته المشروعة ومتطلباته المتنوعة، فهو مجاهد في سبيل الله تعالى، يؤجر على كل خطوة يخطوها أو كلمة يعلنها أو نفقة يخرجها، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) (التوبة: 120).

يجب على الأمة أن تقوم بواجب الإعداد لمواجهة العد؛ حماية لثوابتها من إجرامه ولمقدساتها من اعتدائه

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله» (أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وصححه الألباني) والأمة التي لا تعد أبناءها ليموتوا شهداء في ميدان العز والكرامة، ستفقدهم حتماً في ميادين الغدر والخيانة.

3- القعود والخذلان: إن لم يكن المسلم في ساحة الجهاد مقاتلاً، ولا في ميدان الإعداد مناضلاً، فهو إذاً في ميدان الخذلان قاعداً، قال تعالى عن أصحاب هذه الحالة: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46).

الثاني: مجاهدة العدو ومناجزته:

على الأمة أن تجاهد عدوها المتربص؛ حماية لأجيالها من الفتنة في دينها وعقيدتها وإفساد فطرتها، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (البقرة: 193)؛ وأي فتنة للمسلم أعظم من أن يعيش محروماً من شريعة ربه التي يتحاكم إليها، ومن منهجية رسوله صلى الله عليه وسلم التي يقتدي بها، ومن كرامته التي تصان، ومن هويته التي يتمسك بها؟!

لذا كان التكليف النبوي للأمة أن تجاهد بكل الوسائل المتاحة، قال صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني).

الثالث: عدم التهاون في عداوته:

يجب على الأمة أن تستمر في مقاومتها لأعدائها، وألا تركن إلى الضعف، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ) (النساء: 104)، وقال سبحانه: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35).

الرابع: عدم موالاتهم:

نهى القرآن عن كل صور الموالاة والتماهي مع منهجيات الكفر وتطبيع العلاقات مع المعتدين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)؛ واتخاذهم أولياء هو اعتبارهم أصدقاء وأحباء وأنصاراً، ويظهر ذلك بالحفاوة بهم، وإكرامهم، وتعظيمهم.

للسياسة الشرعية منهجية تتعامل بها مع العدو بصفة عامة تنبع من مبدأ العدل والقصد في الإسلام

ومما يوضحه قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة: 22)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) (الممتحنة: 1)؛ فدلت الآيتان على أن اتخاذهم أولياء يتضمن مودتهم ومحبتهم، وقال تعالى: (تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة: 80).

وقد فسر العلماء «التولي» في قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)؛ بمعنى نصرتهم على المسلمين؛ ولهذا كانت مظاهرة الكفار ومعاونتهم ضد المسلمين من أنواع الردة؛ لأن ذلك يستلزم مقاومة الإسلام والرغبة في اضمحلاله، وذل أهله.

فالمسلم لا يوالي الكافر، ولا البر يوالي الفاجر؛ فإذا والاه كان ذلك دليلاً على نقص إيمانه، أو على زوال إسلامه، وهذا من صور المروق عن الإسلام، فالذي لا يستطيع جهاد أعدائه بالسيف، فعليه أن يقاطعهم على الأقل، ولا يسهم في نفعهم اقتصادياً أو تجارياً؛ إذ كل دعم لهم يعني تقوية شوكتهم وإمدادهم بأدوات يفتكون بها بالمسلمين.


أخلاقيات السياسة الشرعية في التعامل مع العدو المحارب |  مجلة المجتمع الكويتية
أخلاقيات السياسة الشرعية في التعامل مع العدو المحارب | مجلة المجتمع الكويتية
الحروب في الإسلام ليست دينية، أي يمليها التعصب ال...
mugtama.com
×


منهجية السياسة الشرعية في التعامل مع العدو:

للسياسة الشرعية منهجية تتعامل بها مع العدو بصفة عامة، تنبع من مبدأ العدل والقصد في الإسلام؛ فهي ترتكز على درء الفساد وحفظ المصالح العامة، مع التزام القيم الأخلاقية في أقصى درجاتها، وتطبيق أحكام الشريعة التي تصون الأرواح والأموال والأعراض، دون تجاوز أو انتقام يستبيح الضعيف أو ينحرف عن ميزان العدالة.

وتضع هذه السياسة في اعتبارها تحقيق مقصدين جليلين؛ حقن الدماء قدر الإمكان، وحفظ المجتمع الإسلامي من عاديات العدو وهجماته؛ فلا تترك الساحة للفوضى أو الانتقام، بل تدار وفق ضوابط تجمع بين الدفاع المشروع والمسالمة حين يتيسر سبيلها.

ويتلخص كل ذلك في آيتين واضحتين تؤسسان لتلك المنهجية؛ قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة