رؤى تربوية..

زمن الخواطر والمخاطر

لا أنسى تلك الأيام الجميلة التي صافحت أذني فيها -للوهلة الأولى- كلمةُ «خاطرة» كمصطلح ذي دلالة محددة في أوساط الشباب الإسلامي المشتغل بالدعوة والحركة الإسلامية، آنذاك، إذ يشير إلى كلمة قصيرة لا تكاد تتجاوز خمس دقائق طولًا؛ يلقيها أحدنا حين تجمعنا مناسبة من المناسبات التربوية الهادفة؛ كالأُسَرِ، والكتائب، والرحلات، والمخيمات.  

 وأجمل ما في ذكرياتي مع الخواطر؛ أنها ارتبطت في تلك البدايات البعيدة عندي بطابور البحر الصباحي أثناء المخيمات الشاطئية، ثم بحفلات السَّمَر الليلي الماتعة في الزنازين المصرية، ومَن خبِر تلكما التجربتين الفريدتين -متعك الله بالأولى، وأعاذك من الثانية- يستطيع أن يقدِّر روعة تلك المشاعر الدافقة، وحجم السعادة النابضة التي تكتنفهما بما يجعل ما يرتبط بهما من معان، ومواقف مما لا يكاد يفارق مُخَيِّلةَ المرء أو ذاكرته.

 في التجربة الأولى؛ كنت بصحبة أحبة كرام على شاطئ البحر في الإسكندرية، في مخيم بمنطقة أبي يوسف، وفي التجربة الثانية؛ كنت على موعد مع يوسف أيضاً في ثلةٍ أخرى من الصالحين الأطهار، ولكن في المدرسة التي ارتبطت باسمه في وجدان أهل الحق ممن ابتلوا بلاءه في معاناة السجن ظلمًا وعدوا من ظالمين مجرمين؛ لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمة ولا رحمًا.

مصطلح لطيف:

وقد صافَحَت أذني بكثافة آنذاك حروف ذلك المصطلح اللطيف الذي يصف تلك الكلمة القصيرة التي يُطلَب من أحدنا أن يعبِّرَ فيها عما يجول بخاطره، أو ما يحضُرُه في تلك اللحظة المفعمة بالمشاعر التي تجمعنا معًا.

وأشهد أن بعض ما سمعته من معان في تلك اللحظات الرائعة ظل مستقرًا في القلب سنين، وترك في النفس من الآثار ما لا يُنكر، بما يؤكد المقولة الجميلة "ما خرج من القلب، استقر في القلوب، وما خرج من اللسان، لم يجاوز الآذان"، وبما يؤكد كذلك أن التعلم الذي يتم في أجواء تكتنفها الشاعرية، والسكينة والسلام؛ وعواطف المحبة؛ والتفاهم؛ والمرحمة هو التعلم الأبعد أثراً في نفس المتعلم.

لا أنسى لحظة اُنْتِدِبْتُ لأول مرة لأعبِّرَ عما يجول بخاطري في خاطرة عابرة، لا أنسى دقات قلبي المتسارعة، وحيرتي المفزعة، وارتباكي الذى خشيت أن يبدو في صوتي أو حركاتي، لولا ستر الله تعالى،  ثم لا أنسى استراحة نفسي، وتنفسي الصُّعَدَاءَ حين أتممت خاطرتي التي خِلْتُ دقائقها الخمس دهراً، لكني أذكر أني عدت بعد اختتام خاطرتي لمكان من الطابور راضياً عن نفسي، مستريحًا لما منَّ الله به عليَّ من كلمات، مستشعراً أني كسرت حاجز خجلي في مثل تلك المواقف، بما أضاف لشجاعتي الأدبية التي نمت رويداً رويداً في تلك الأجواء؛ لتجعل مني لاحقاَ خطيباً؛ يأنسُ لسماعه البعض على أية حال، ويدعي كثيرون أنه ممن تركت كلماته في نفوسهم أثرًا، ولله الحمد.

أحسست يومها أو هُيئ لي أني دخلت زمن الخواطر، وابتسمت بيني وبين نفسي، وأنا ألاحظ أني دخلت هذا الزمن -زمن الخواطر- متأخراً على نحو ما، أو أنني دخلته من باب غير الأبواب المعتادة!

جبر الخواطر:

نشأت في بيئة يتداول الناس فيها ذلك المثل الشعبي السائر «جبر الخواطر على الله»، وحين يطلب أحدهم منك أمرًا، ويلحف أو يتوسل يقول لك "علشان خاطري"، ولا أدري هل كنتُ قرأتُ حينها تلك الحكمة الجميلة «من عاش لله جابرًا للخواطر أنقذه الله في جوف المخاطر»، فالخاطر والخواطر كانت تدور في داخلي محملة بمضامينها الإنسانية الاجتماعية، ليس فقط بجانبها الإيجابي الذى بسطته آنفاً؛ بل بجانب سلبي لا ينفك عنها، إذ يرتبط بعالم المحسوبية، والوساطات والمجاملات التي قد تضيعُ معها حقوق البعض؛ حين يُكْرَم من لا يستحق، أو ينال امرؤ فسل خامل ما ليس له؛ رعايةً لخاطر قريب أو نسيب أو مُوصٍ ذي شأن، أو مصلحة.

واسترجعت ذاكرتي صورًا أخرى من صور تلك الخواطر الأدبية التي تفيض بها أعمدة الصحف والمجلات، وتذكرت سيد قطب وكتابه الفذ "أصول النقد الأدبي" وهو يشير بعبقريته النادرة إلى هذه الظاهرة الأدبية، ظاهرة الخاطرة ويعطيها اسمًا يفصلها عن المقال؛ ويجعلها نوعًا أدبيًا قائمًا برأسه، ولم أكن قرأت مثل هذا المعنى لدى غيره قبله، وكنتُ، وما زلت، من دارسي الأدب المختصين به وعشاقه.

استرجعت تلك المقالات القصيرة التي اشتهر بها بعض كتَّاب الأعمدة بالصحف السيارة، والمجلات التي أتعهدها، حيث وجدت أنها لا يصح أن توصف أي منها إلا بكونها خاطرة؛ إذ لا تنطبق عليها خصائص المقالة كما درسناها وعرفناها.

لقد رأيتنا نعيش حقًا زمن الخواطر التي تتناسب مع عصر السرعة الذي انطبع بميسمه على كل شيء، وراح يستحدث من أدوات التعبير اللفظي وغير اللفظي ما يناسبه، وللزمان والمكان آثار على لغة الناس؛ وطرائق تفكيرهم؛ وأساليب تعبيرهم ما لا ينكر.

صور متنوعة من الخواطر:

لكني عدت بذاكرتي إلى تراثنا الأدبي والفني القديم؛ فمرَّ بخاطري صور متنوعة من صنف الخواطر، أو صادرة عن مشكاتها، فمرَّ بخيالي سريعًا أطياف من المقطوعات الشعرية والتوقيعات السياسية وغير السياسية، والحِكَم والمأثورات والوصايا والنوادر والمُلَح، وحتى الطقاطيق الموسيقية.. ووجدت أننا كنا نتحرك من قديم نحو زمن الخواطر ونسعى إليه سعيًا حثيثًا، ولليوم بالبارحة وشائج.

واليوم وأنا أكتب محاطًا بحاسوبي، وهاتفي النقال، ولوح المعرفة، أو حاسوبي اللوحي أو بلفظ آخر مألوف، وإن كان غربي الوجه واللسان (التاب) أجدني محاطًا بعشرات أو مئات من الخواطر في سِفْرِ الوجوه (الفيس بوك)، والمُغَرِّد (تويتر)، والوصّال -بتشديد الصاد- (واتس آب)، والمصور الإيضاحي (انستجرام) وهلم جرا مما تفتق عنه ذهن البشر للتعبير عن أنفسهم في هذا العصر اللاهث المجنون(1).

نحن نعيش زمن الخواطر، ومن حقه علينا أن نتقن أدواته؛ لنتقن العيش في زماننا؛ ونحسن التخاطب مع ناسه وفق ما ينبغي أن يكون، ونحقق غايات وجودنا وتميزنا.

إنه حق الزمن، ولكل زمن على ناسه حقوق، وإن كرهنا بعض معطياته ومستحقاته، لكننا نبقى مُجَبرين على التعاطي معها.

نحن نعيش زمن الخواطر الذي يوشك أن يقتل إحساسنا بالكلمة الجميلة، ويقلل رغبتنا في صور من الأدب؛ طالما تركت في نفوس البشر آثاراً لا تُمحى بتركيباتها المتينة من العبارات القوية المترسلة ترسلًا تنساب معه المعاني لأعمق أعماق النفوس؛ تتملاه وتتفاعل معه.

فإلى أين سَيُسْلِمُنَا هذا الزمن الخطير الملامح وتداعياته بعد؟! الله أعلم.

إنني في الحقيقة لا أكتم خوفي من هذا الزمن قصير الأنفاس في الاسترسال مع الأفكار والمعاني العميقة والقضايا الكبرى لإغراقه مع المادة واستغراقه فيها وفي همومها أيّما استغراق، مما أضعف كثيراً قيمة الروح والروحانيات والقيم الأدبية.. لا أكتم خوفي على ناسه؛ وبخاصة تلك الأجيال الناشئة ضيقة العطن، ملولة النفوس، عجولة الخطى لقطف الثمار، وإن بغير حق.

الاختصار والإيجاز:

ولا شك أن الاختصار والإيجاز هما قيمتان بلاغيتان رفيعتان معتبرتان، غير أن جماليات النص الأدبي المترسل المتمهل؛ الذي ينطوي على كل معجب مثير من رائق القول، وأفانينه.. إن لذلك سحره الذي لا يقاوم، وربما من هنا يأتي سحر ما يعرف في مصطلحاتنا اليوم بالقصة (Story) أو الرواية (Novel) المسترسلة قرينة الإسهاب والإطناب، متعددة الأبواب، كثيرة الفصول والصفحات.

فإذا كانت الخاطرة في عالم اليوم ذات حضور وذيوع اقتضته طبيعة العصر وسرعة إيقاعه، فإنها ينبغي ألّا تطغى على سواها من فنون القول؛ التي ترقى بالفكر والوجدان معًا، وقصارى الخواطر العابرة أن تكون كالشرارات القادحة لزناد الذهن، أو نقاط الضوء المضيئة كالثريات على الطريق تبصرة أو ذكرى، أو منبهات تساعد الأذهان على أن تبقى مستنفرة حية لتمارس أدوراها في خدمة الناس، وينبغي ألّا تكون أبداً على حساب الأعمال الأدبية التي قوامها الإطناب والاسترسال، وتشقيق القول، وتوليد المعاني والأفكار، واللجوء للإيجاز، من ثم، يبقى عارضًا من عوارض الكلام البشري؛ تقتضيه ظروف وأحوال لكنه لا يصلح أن يكون وحده أساسًا للخطاب الإنساني، وبخاصة إذا أُريد أن يكون له الأثر المنطبع في عقول الناس وقلوبهم، ولأمر ما تنوع الخطاب القرآني بين هذا وذاك، ومن هنا كانت بعض أوجه إعجازه وتميزه.

فلتبق الخاطرة، ولتمض، ولتتطور ولتتشكل ملامحها الفنية المميزة على مهل؛ ضربًا مميزًا من ضروب القول؛ كما بقيت وتطورت أخواتٍ لها من قبل في تراثنا الأدبي والبلاغي، لكنها ستبقى مجرد عروس جديدة بين عرائس الفكر مجلوة، ولن يكون لها أن تزيح عن تخت العرائس غيرها؛ لتنفرد بآذاننا وقلوبنا وعقولنا، وأنَّى لها!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــ

 


(1) ترجمة كل ما ورد بهذه الفقرة وغيرها من الفقرات من صنوف المخترعات الاتصالية الحديثة، وأشكال برامج التواصل الاجتماعي هي من اجتهاد المؤلف؛ بوصفه من المشتغلين باللغة والأدب دراسة وتدريسا واعتناءً، وبالطبع هي ليست معتمدة من أي مجمع لغوي؛ لكنها مجرد محاولات فردية، ولعلها تكون حوافز للعقول اللغوية المتمرسة؛ لعلها تسعف الذاكرة العربية بما يلغي أو يخفف سطوة هذه المصطلحات الغربية على حياتنا.

 


كلمات دلاليه

تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة