قراءة نقدية في مسلسل «معاوية»

الحدث هو صناعة لمرتكز ثلاثي "الإنسان والزمان والمكان"،
ولا يمكن التناسي أو التغافل عن أحد مكونات هذا الثالوث في الحديث عن حدث تاريخي،
حتى ولو كان دراميا، مثل "مسلسل معاوية"؛ الذي يعد الأضخم في تاريخ
الدراما العربية، بتكلفة وصلت 100 مليون دولار، وربما الأكثر تعقيدا وجدلا أيضا في
تاريخها الفني.
ثقافة الكاتب:
من
أول حلقة في "مسلسل معاوية" يجب أن ندرك أننا أمام مسلسل يحمل الكثير من
التقاطعات التاريخية المعقدة، ليس بين طوائف المسلمين فحسب، بل أمام كبار
المؤرخين، فصياغة مثل هذه الأحداث الضخمة لعمل درامي، يجب أن تكون نابعة من كاتب
تمرّس على الغوص في أحداث التاريخ، خاصة هذه الحقبة، وعاش أعمالا سابقة، فتحت له
أبواب ما يعرف في حالة البحث بـ"التوسم"، وهي حالة روحية تصل لمعايشة
الكاتب وجدانيا وقلبيا للحقبة؛ التي يكتب عنها بما فيها أبطالها، وهذه لا تتأتي
إلا بعد مثابرة من العمل والدربة، ومعايشة روحية للأبطال من خلال النصوص، وهو ما
بدا ضعيفا في اختيارهم، وفق مواصفاتهم التاريخية "الجسمانية والمزاجية"،
من أول حلقات المسلسل، إلا في حالات جاءت إيجابية وعلى استحياء، كاختيار "عبد
الباسط بن خليفة" في دور الصحابي "قيس بن سعد بن عبادة".
أبطال المسلسل:
قبل
الولوج إلى الحديث عن أبطال المسلسل، ففي صناعة الأعمال بـ "هوليوود"،
هناك "المخرج التنفيذي" دوره فقط القيام باختيار الأشخاص المناسبين، بما
يناسب تاريخهم وأشكالهم وبنيانهم الجسماني، وهو ما كان بعيدا كل البعد عن عدد كبير
من أبطال "مسلسل معاوية".
ولا
ننسى أيضا أن اختيار الأبطال منوط به حضورهم في ذهنية المشاهد وعقله الجمعي، ولعل
هذا يذكرنا بما قام به المخرج العالمي "مصطفى العقاد" قبل 40 عاما في
عمله الرائع "الرسالة"، وأسقط الفنان "توفيق الدقن" من
القائمة، وحينما عاتبه، كان رده: "أنت في ذهن المشاهد الشخص اللعوب والحرامي
والبلطجي والسكّير"، لينهي "الدقن" الحوار مع "العقاد"
بنكتة ضحك منها الجميع: "كنت اعتبرتني يا أخي "أبو لهب".
وحينما
عرض على الراحل نور الشريف أداء دور "الحسين بن علي" تردد في ذلك، موضحا
أنه لو وافق، سيعتزل بعدها حتى لا يفسد "مخيلة الحسين" في ذهن المشاهد.
اقرأ أيضا: مسلسل «معاوية» وأشياء أخرى
ولأول
وهلة في أولى حلقات المسلسل نرى اختيار شخصية "هند" مباعدة تماما عن
هيئتها التاريخية، فهي المرأة المهيبة ضخمة ومتينة البنيان، وهو ما لم نجده عند
"سهير بن عمارة"، إلا في أدائها اللغوي.
كما
الأمر في اختيار شخصية "الإمام علي" وابنه "الحسن بن علي"
وابن عمه "عبد الله بن عباس"، فالفنان "إياد نصار" له أدوار
سابقة في مخيلة المشاهد، لا تناسب الوزن الثقيل لاسم رجل في قامة "الخليفة
علي"، خاصة ما دار حوله في أداء دور "مثلي جنسيا" في فيلم
"أصحاب ولا أعز".
أيضا
المواصفات الجسمانية للصحابيين "الحسن بن علي" و"ابن عباس" لا
تتناسب، بل تبدو منفرة مع اختيار الأبطال في العمل الدرامي، خاصة أن ابن عباس كان
جميلا وسيما كأبيه "العباس"، وجدّه "عبد المطلب"؛ وهي جينات
وراثية معروفة تاريخيا، و"الحسن بن علي" كان أقرب الناس شكلا للنبي صلى
الله عليه وسلم.
تسريع الأحداث:
انقسم
مسلسل "معاوية" إلى شطرين من الحلقة الأولى إلى السادسة عشرة، تناولت
الحديث عن مولده وحياته الأولى وإسلامه، مرورا بحركة الفتوح ومشاركته فيها، ووصوله
إلى الإمارة حتى عام الجماعة، وتنازل الحسن عن الخلافة، ليبدأ دوره كخليفة بداية
من السادسة عشر.
نتيجة
زخم الأحداث في هذه الفترة نجد هناك تسريعا لها، لكن هناك أحداث لا يمكن تغافلها،
أو المرور عليها مرور الكرام.
فعلى
سبيل المثال جاءت ثياب النساء مزركشة، والمنازل بها ما يشبه "المشربيات"
وحتى سوق مكة يوجد به الطيور، وهو مجتمع كان يعيش على لحوم الإبل.
اقرأ أيضا: إشكالية الأخطاء التاريخية في الدراما الدينية
النهروان وقبرص:
أيضا
الإشارة العابرة لحدث ضخم كموقعة "النهروان" بين الإمام علي والخوارج،
والذي ظهرت فيه نبوءة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث تنبأ بقتل رأس الخوارج
"ذي الثَّدِية" على يد أقرب الطائفتين للحق، وهي نقطة تحسب للخليفة علي،
وربما كان هذا عمدا من الكاتب حتى لا يؤثر على شخصية بطله معاوية.
وفي
فتح قبرص تم تجاهل وفاة الصحابية "أم حرام بنت ملحان" وهو مشهد درامي
بطبيعته التاريخية، وتم تسليط الضوء فقط على وفاة زوجة معاوية "فاختة"،
رغم حضور العنصر النسائي بقوة في فتح الجزيرة.
كذلك
نهاية "محمد بن أبي بكر" على يد " عمرو بن العاص" وهو في
الحقيقة قتل على يد أحد قادة "معاوية"، المعروف تاريخيا بـ "معاوية
بن حديج"، إضافة إلى قصة التنازل عن الخلافة، وهي محور أصيل في العمل الفني،
فقد جاءت باهتة فنيا، خاصة أنها -تاريخيا- جاءت بعد إعداد عسكري وكتائب كالجبال
كانت مع "الحسن بن علي".
بذخ القصور:
تسبب
ظهور أبطال العمل الدرامي بالملابس المرزكشة والمطرزة في جدل طيلة حلقات المسلسل،
خاصة المرأة في البيت الأموي -إمارةً وخلافةً- فالمرأة الأُموية والنساء عامة في
هذه الحقبة "محتشمات" ولا يليق بهن مثل هذه الملابس، خاصة في حق
"هند بنت عتبة" التي كانت في جاهليتها غاية في الاحتشام.
ولا
يفوتنا أنها تم طلاقها من زوجها الأول، بسبب نومها -سهوا- فيما يشبه -صالة استقبال
الضيوف- التي لم يكن بها أحد، ما اعتبره زوجها نوعا من التحرر، فطلقها ليتزوجها
"أبو سفيان".
وقصر
معاوية خاصة في عصر الإمارة، لا يتناسب مع وضع قصور الأمراء على أرض الواقع، خاصة
في خلافة الفاروق عمر، الذي كان يحاسب الولاة على "النقير والقطمير".
البعد القيمي:
لا
شك أن كل عمل درامي يهدف إلى رسالة مجتمعية هادفة، ونحن في عصر مفعم بالقيم
والتربية الإنسانية، وهو ما لم يحضر بقوة في حلقات المسلسل، كظهور معاوية في قصر
مليء بالورود والأشجار، والطواويس والعصافير، والأغرب من ذلك أنها حاضرة حتى في
استضافة الفاروق عمر -رمز الزهد ومحاسبة الولاة على الترف-.
أيضا
تعمد إظهار معاوية، وهو يلعب "الشطرنج" وكأنه من لوازمه حتى صلاة الفجر،
وهو مع جاريته التي تتلو عليه الحكايات، وهذا يخالف جوهر شخصيته، المفعمة بالأدب
وحفظ الشعر، ومدارسة التاريخ.
اقرأ أيضا: المستقبل للفن النظيف والأدب الهادف
مشاهد جيدة:
رغم
المغالطات التاريخية يبقى هناك مشاهد جيدة، منها مشهد مقتل الفاروق، أداء مميز
يتوافق مع الرواية التاريخية.
كذلك
حوار "علي" و"معاوية" قبل صفين مكتوب بمهارة وفق الرواية
التاريخية، كما يحسب للكاتب تركيزه في الحوار على تقنين مسألة "قتال
البغاة" وهي مسألة فقهية حساسة للغاية، كما جاءت قصة التحكيم موافقة لما هو
متداول تاريخيا، ومناظرة ابن عباس للخوارج جيدة ورائعة في فن المناظرة.
واللغة
فصحى وجميلة، وهناك صياغات سياسية على لسان معاوية وهو يأكل الطعام قائلا: "الطهو
عملية جيدة لنضج الطعام ليأكله الناس، والسياسة هي نضوجك حتى لا يأكلك
الناس"، ولقاؤه مع زوجته "ميسون" وهي لا تعرفه فقال لها: "أنا
السائس"، ففهمت منه أنه سائس الحصان، وهو يقصد "سياسة البشر".
اقرأ أيضا: خطيب المنبر في الأعمال الفنية.. رؤية نقدية