كيف نؤسس جيلاً مقاوماً؟
المقاومة المشروعة ضد المحتلين للأرض والمقدسات حقٌّ أصيل للشعوب لنيْل استقلالها واسترداد كرامتها، وهو أمرٌ أقره الإسلام وأعلى مكانته قبل قرون من إقراره في الإعلانات والمواثيق الدولية، ورغم ذلك تحاول بعض القوى العالمية إجهاض الفكرة من الأساس، بوصمها بالإرهاب، ورميها بتهم العنف واستخدام القوة لاستباحة الدماء وإزهاق الأرواح، وهذه محاولة للتضليل ولصرف الأنظار عن الغرض النبيل للمقاومة.
إذ الواجب تكوين جيل جديد وإعداده لهذه التبعة الثقيلة، التي لا يستطيعها إلا أصحاب العقيدة، أو كما تعارف عليه «جيل النصر المنشود»، فهم عُدة النصر ورهان الأمة ووعد الله الصادق لها؛ (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال).
ومن صفات هذه الفئة من المؤمنين أنهم أقوياء الإيمان بفكرتهم ومنهاجهم، ذوو ذكاء اجتماعي، مضحون بأموالهم وأنفسهم وما يستطيعون، مبدعون في حركتهم وأساليبهم، قادرون على العمل رغم الظروف الصعبة، مبادرون في اتخاذ القرارات وإدارة الأزمات، مهرة في استشراف المستقبل، صابرون مستبشرون، موقنون بأن نصر الله قريب وإن رآه الآخرون بعيدًا، مدركون لبيت الداء في الأمة، وهو حبها للدنيا وكراهيتها للموت؛ لذا فهم يعدون الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، بل يحسنون صناعة الموت ويعرفون كيف يموتون الموت الشريفة.
رجال العقيدة
هناك فرق كبير بين أهل العقيدة وغيرهم ممن لا رأي لهم ولا مبدأ؛ إذ للعقيدة أثرٌ عظيم في صياغة القادة وصناعة الرجال، وتقدم الأمم ونهضتها، وحراسة الدين وحماية الوطن، وتأسيسُ جيل مقاوم واع متماسك يحتاج إلى محاضن تربوية وعمل جماعي، وإلى قدوات ذات نَفَسٍ طويل وقدرة على الصبر والاحتمال، يُعهد إليها بوضع إستراتيجيات شاملة لغرس العقيدة الصحيحة في نفوس هؤلاء الفتية، وتعزيز الإيمان وحب الوطن في شعورهم، ضمن رؤية لتأكيد عدالة قضيتهم وتأصيل هويتهم، والاعتزاز بتراثهم الديني والحضاري، والفخر بالانتماء لهذه الأمة، وربط كل ذلك بفكرة المقاومة.
والمنتظر من هذا البرنامج تعزيز قيم التعاون في المجتمع، ونشر معاني البر والتكافل، وتحلي الجميع بصفات الصدق والأمانة والشجاعة، والإيمان بقيم العدالة والمساواة، وقومٌ على هذه الشاكلة من العقلية القادرة على التفرقة بين الحق والباطل، ومن فهم القرآن والتفقه في الدين، لقادرون على تنزيه أنفسهم من المطامع والغايات، والجاه والمنصب، والمنفعة والمال؛ لأجل غاية واحدة هي رضوان الله، واضعين نصب أعينهم قول الله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات: 50).
تعليم نوعي مستمر
تتطلب صياغة المقاوم تعليمًا نوعيًّا مستمرًّا، يتم التمهيد له بإبراز أهمية العلم، واحترام العقل، وتقديم الدليل، ورفض الخرافة؛ لتخريج جيل نقدي التفكير، يؤمن بالعلمية والواقعية؛ ما يستلزم تطوير المناهج لتلتقي مع القيم الوطنية، وتعزز الوعي الثقافي المتعلق بتاريخ الأمة وسيرة الجهاد والمقاومة عبر مسيرتها الطويلة، وإبراز التحديات التي واجهتها وتواجهها، والحض على المطالعة والمعرفة لبناء إدراك واع وفكر مستقل، وتنمية مهارات عملية حديثة وروح ابتكارية مبدعة تعضدها قيم تراثية ونماذج ملهمة من قادة الأمة ورموز مقاومتها.
ولا ينفك هذا التعليم عن التماس مع القضايا العالمية، الإنسانية والوطنية، واستيعاب أن الحالة المحلية جزء من المكوّن العالمي لا ينفصل عنه، ولا يشذ في أسسه إلا فيما يتعارض مع شريعتنا وشعائرنا، وقيمنا وأخلاقنا، لكن لا مناص من تعلُّم اللغات، والتواصل مع الثقافات الأخرى، ومد حبال الود مع المشتركين معنا في الأصول الإنسانية وقواعد العدالة وقيم الحضارة والكرامة الآدمية، كما لا مناص من تطوير برامج إعداد القادة وإدارة المؤسسات، وبناء وعي رقمي إذ صار لغة العصر، كأداة لمناصرة القضية، وحاضنة للتعبير عن الذات وتعضيد المجتمع الخاص بهذا الجيل وفق رؤاه وتطلعاته الثقافية.
التجهيز للمعركة
يرفع المقاومون شعار (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60)، فهم لا يتوانون عن تحسين أدائهم، والتجهيز لملاقاة عدوهم، وعلاج نقاط ضعفهم؛ مرجعهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقُّ بها».
ويتم إعداد هذا الجيل على الجدّ والعطاء والبناء، والعمل لا التغني بالأمجاد وترديد مقولة: «كان أبي»، بل الجميع منصهرون في بوتقة واحدة أمام عدو مشترك، تحت لافتة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف: 4).
وفي الميدان العملي يتم تنظيم المخيمات والاجتماعات التي تعزز الصلابة النفسية والجسدية معًا، وتشجع روح العمل ضمن فريق، والتدريب على الأعمال التطوعية وتنمية الشعور بالقيادة والمسؤولية، ويرافق ذلك تعلم المهارات، وإدارة المشروعات الصغيرة والبعد عن القيود الوظيفية؛ بما يدعم الاقتصاد الوطني ويصمد أمام معركة الحصار والمقاطعة، ومن أجل تحصين الشباب ضد التضليل الإعلامي والحروب النفسية وجب استخدام وسائل الإعلام الحديثة، والاستفادة من التقنية في تعزيز أفكار وقيم المقاومة.
نصر أو استشهاد
تتم صناعة المقاوم على أن يكون هدفه الأسمى منصبًّا على رضا الله، راصدًا حياته كلها لمولاه، فلا يشغله موت أو بقاء، ولا يعرف المستحيل أم إحدى غايتيه الأسميين؛ النصر أو الاستشهاد، يقولون: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب: 22).
ويخضع المقاوم لأجل ذلك لبرنامج تدريبي مكثف في احتمال المشاق، والصبر على الشدائد؛ ليتولد في داخله قوة نفسية كفيلة بالتغلب على اليأس والإحباط، وتعويده على المرابطة والثبات، وخلق مناعة ذاتية ضد الضغوط بأشكالها، فلا تغلبه المحن، ولا يعرف المستحيل، بل لديه من الأمل والطموح ما يدفعه إلى الصمود وعدم الاستسلام.