13 فبراير 2025

|

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

 

 

من الآيات الكريمة التي يخطئ البعض في فهمها، ويستشهدون بها في غير سياقها قول الحق سبحانه: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة:195).
 فكم من امرئ ترشده لقول كلمة الحق فيبادرك مستدلا بهذه الآية على جبنه وصمته، وحين تطالب آخر بمعاونة المجاهدين الصادقين ولو بالإنفاق عليهم وتجهيزهم وخلفهم في أسرهم، تجد الجواب نفسه: وعشرات من المواقف الداعية للإيجابية، والصدع بالحق، ونصرة المظلومين، والسير في طريق الله عز وجل، ليكون الرد صادما باستخدام آيات الله في غير ما أنزلت له!
وقد كان حريا بمن يستشهدون بتلك الآية الكريمة أن يبدأوها كما بدأها الله عز وجل، ويعرفوا سياقها وحكمها وفيما أنزلت، قبل أن يحملوا آيات الله مفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان. 

 

ما هي الهلكة المقصودة في الآية الكريمة؟

 

وردت الآية الكريمة في سورة البقرة في الآية 195، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وكما هو معلوم في تفسير كلام الله ينبغي النظر إلى الآية كاملة، والسياق الذي وردت فيه، والآيات التي قبلها والتي بعدها.. وفي هذه الآية فإن سياق الآيات كان الحديث عن الجهاد، يقول ابن كثير في تفسيرها:  

"قال البخاري: سمعت أبا وائل، عن حذيفة: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال: نزلت في النفقة. 

 

وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صَحِبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا -معشر الأنصار- نجيا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه، صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. 

 

وقال الحسن البصري: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال: هو البخل. 

 

ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار، إن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (1).

 

فوائد الإنفاق على العبد في الدنيا والآخرة 

 

تعود ثمرات الإنفاق على العبد في الدنيا قبل الآخرة، ولم يبح الله عز وجل الحسد إلا في اثنتين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا، ورَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسلّطَه عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِ" (رواه البخاري).

 

وعن الترغيب في البذل والعطاء يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ ومَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ: "مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ، وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ" (رواه البخاري)، وفي الترغيب كذلك وتوضيح الأجر العظيم للصدقة مهما كانت قليلة يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" (أخرجه البخاري ومسلم)،  وسُئل، صلى الله عليه وسلم، "أَيّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟"، قَالَ: "أن تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ" (أخرجه البخاري ومسلم)

 

والإنفاق فيه مضاعفة الأجور، حيث يقول رب العالمين: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد:18)، وله مقابل من الحسنات المضاعفة والتي يعود مردودها عليه في الدارين، فيقول تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (البقرة:245)، وقال: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)، ومن اعتاد البذل والعطاء أجزل الله في عطائه له من انشراح الصدر، كما في قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) (الليل:5-7).

 

ومن بركات الله على المتصدق أن يكون يوم القيامة حين يغرق الناس في عرقهم في ظل صدقته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ امْرِئٍ تحت ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ" (أخرجه أحمد)، والعطاء والبذل والسخاء فيها إدخال السرور على قلوب المحتاجين، وهي من أعظم العبادات عند الله عز وجل، كما قال نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على أخيك المسلم؛ تكشف كربا، أو تقضي دينا، أو تطرد عنه جوعا" (أخرجه الطبراني)، ومن أهم ثمرات الإنفاق دخول الجنة، يقول تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)،( آل عمران: 133-134).

 

آداب وشروط الإنفاق

 

العبادات المالية مثلها ككل عبادة لها شروط قبول حتى تؤتي ثمارها على العبد، ومن أهم شروط قبول الإنفاق في سبيل الله قبل الوقوع في التهلكة:

 

1 - أن تكون النية خالصة لله عز وجل
 فالعمل له شرطا قبول: أن يكون العمل صالحا، وأن تكون النية صالحة، أو أن يكون العمل خالصا كله لله، وقد نبه النبي، صلى الله عليه وسلم، على أهمية إخلاص النية لله، دون سمعة أو رياء أو نفاق أو غرض دنيوي، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (أخرجه البخاري ومسلم).

 

2 - عدم القيام بأي فعل يبطل صحة العمل
 كأن يقوم بالمن والأذى على خلق الله الذين سخره لخدمتهم والعطاء لهم من مال الله الذي وهبه إياه، والمن هو أن يُذكِّر المحتاج في كل وقت وحين بما أعطاه إياه، فيؤذيه بقصد أو بدون قصد، ولخطورة ذلك الفعل على نفوس البسطاء وللأثر السيئ الذي قد يتركه في المجتمع، فقد حذر الله تبارك وتعالى منه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، (البقرة: 264).

 

3 - أن يكون الإنفاق من مال حلال فالله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا، يقول عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة: 267).

 

4 - الوسطية في الإنفاق 

 

فالمؤمن معتدل في كل حال، وهو مستخلف في مال الله، فلا يهدره بالإسراف، ولا يمسكه بالتقتير، وإنما هو إنسان وسطي معتدل كأموره كلها التي شرعها الله عز وجل، وقد أمر سبحانه بتلك الوسطية المعتدلة فقال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67).

 

وتلك خطوة أخرى في الاستعداد لشهر رمضان المبارك، بتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة لدى البعض، هدى الله أمتنا لطريق استقامتها، وألهمها رشدها، وآتاها سؤلها.

 

 

 

 

 

 

[1] تفسير ابن كثير


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة