13 فبراير 2025

|

الأسر اللاجئة والمهاجرة في أوروبا بين الذوبان والاندماج

 

كثيرة هي الأسباب التي دعت الأسر العربية والمسلمة للهجرة لأوروبا، بدءا من البحث عن فرصة عمل أفضل وحياة كريمة بعد أن طحنهم الفقر في بلادهم مرورا بالهروب لمجتمع أكثر حرية وانفتاحا واحتراما للكرامة الإنسانية، بعد أن تم سحق هذه المعاني في بعض بلادهم انتهاء بحالات اللجوء والفرار من الحروب أو التنكيل والتعذيب السياسي في بلاد أخرى.

 

وإذا كان الجيل الأول من المهاجرين قد هاجر سعيا وراء لقمة الخبز وكان موضع ترحيب نسبي به في أوروبا، نظرا لاحتياجها للأيدي العاملة بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه أيضا كان الجيل الأكثر بساطة والذي اكتفى بالعيش في تجمعات شبه منعزلة على ضواحي وأطراف المدن الكبرى، راضيا بما يقدم له من سبل العيش مقابل ما يقوم به من أعمال شاقة أو متدنية بوجه عام، وكان أقصى طموحاته هو استقدام أسرته من بلده الأم حتى يشعر بالاستقرار في مهجره.

 

كان الجيل الأول من المهاجرين متدينا بشكل فطري يمزج بين الدين والعادات الثقافية لبلده الأم، ولأنه يعيش فيما يشبه "الجيتو" وارتضى الانعزال عن مجتمع الهجرة فلم يشعر بالمعاناة بل إن كثيرا من هذه العائلات لم تكن تجيد اللغة خاصة النساء اللاتي التزمن بأدوارهن التقليدية كما في موطنهن الأصلي وكانت مشاركتهن محدودة للغاية.

 

لكن أولاد المهاجرين ممن يطلق عليهم الجيل الثاني الذين ولدوا في المهجر أو الأطفال الذين جاءوا لبلاد المهجر في سن صغيرة قبل البلوغ والمراهقة، أو ما يطلق عليهم الجيل واحد ونصف، أولاد المهاجرين هؤلاء التحقوا بالمدارس بطريق إلزامية وأجادوا اللغة كما المواطنين من أصحاب البلاد الأصليين، بل أصبحوا أيضا من الناحية القانونية مواطنين أوروبيين. وهنا بدأ سؤال الذوبان والاندماج.

 

أزمة هوية

 

واجه الجيل الثاني صراعا كبيرا بين القيم التي تلقاها في المنزل وبين ما يتم طرحه في المدرسة التي يقضي فيها معظم يومه والتي تشكك في معتقداته وثوابته، كما واجه صراعا نفسيا حادا بين شعوره بأنه مواطن أوروبي وبين شعوره بالغربة بسبب لون بشرته وملامحه بل واسمه، ومن ثم استبعاده أو النظر له بصورة دونية، وبدأ الصدام ينتقل لداخل الأسرة المهاجرة فتمرد بعض الأبناء على قوانين الأسرة المحافظة وجنحوا للذوبان في القيم الأوروبية في اللباس والعلاقات والقيم، رغبة منهم في إنهاء هذا الصراع لكنهم اصطدموا مرة أخرى بالرفض فلا زالوا غرباء ينظر إليهم بعين الريبة.

 

مجموعة أخرى من أبناء الجيل الثاني سلكوا مسارا آخر، ألا وهو مسار الاندماج الإيجابي، أي الحفاظ على الهوية الدينية مع تخليصها من شوائب العادات والتقاليد، وفي الوقت ذاته المشاركة في مختلف أنشطة المجتمع، حتى السياسية منها، وسعى هؤلاء للاهتمام ببناء مساجد تستوعب العائلة المسلمة كلها، فهناك مكان مخصص للنساء، وهناك وحدة لتعليم الأطفال اللغة العربية ومبادئ الدين، وهناك قاعة لمناسبات الأسر، وهناك أماكن لطهي الطعام الحلال وتقديم الوجبات في رمضان.

 

الحقيقة أن هذا المسار حقق نتائج إيجابية لكنه اصطدم بصعود وتنامي اليمين المتطرف، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما استتبعه من ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وخطاب الكراهية والعنصرية الذي شاع في العديد من البلدان الأوروبية، وانعكس بشكل حاد على أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين ممن ولدوا لآباء ولدوا في أوروبا، وأصبحوا ينتمون لأوروبا: يتحدثون اللغة بطلاقة يفهمون القيم الثقافية يكونون العلاقات الاجتماعية يصلون لأعلى درجات التعليم، أما علاقتهم بالوطن الأم فأصبحت في غاية الضعف، ربما لا تزيد عن قضاء عطلة قصيرة كل عام (إن تيسرت الظروف) وعلى الرغم من هذا كله بقيت مشكلة الاندماج وأزمة الهوية عالقة لأنهم في كثير من الأحيان والأماكن يشعرون بأنهم غير مرحب بهم وأنهم غرباء وتتم معاملتهم باعتبارهم "أبناء المهاجرين"

 

جاءت العائلات اللاجئة لأوروبا ومسارا الذوبان والاندماج قائمان بالفعل، سواء على مستوى الخيارات الفردية للعائلات أو بحكم السياسة العامة لدولة اللجوء التي تدفع اللاجئين للذوبان أو تساعدهم على المشاركة والاندماج.

 

ضياع تربوي

 

كانت هذه هي خلفية الأحداث التي تعيش فيها الأسرة المهاجرة واللاجئة وأبناؤها في أوروبا ما بين الشعور بالرفض وما بين اضطراب في الهوية.. كانت الدعوة للذوبان أو الاستيعاب داخل القيم الأوروبية تتخذ أحيانا مسارا إجباريا مثل انتزاع الأطفال من ذويهم إذا أخطأ أحد الوالدين واستخدم عقابا جسديا ولو بسيطا في عملية التربية، وبعض هؤلاء الأطفال ذهبوا لأسر أخرى ولم تستطع أسرهم الوصول لهم أبدا، فمعظم الأسر اللاجئة تلحق أولادها بالمدارس الحكومية المجانية نظرا لصعوبة الظروف الاقتصادية، وفي هذه المدارس التي يقضي فيها الطفل أغلب يومه لمدة خمسة أيام في الأسبوع، يتعلم الطفل أنه ليس من حق والدك تعنيفك ولو بنسبة بسيطة، وأنك لو تعرضت للإساءة فاتصل على رقم الطوارئ، وبما أن الأمر في التربية لا يخلو من بعض الأخطاء والانفعالات خاصة والأسر اللاجئة تتبع نفس النمط من التربية الذي كانت تعيشه في بلادها، وبما أن الأطفال والمراهقين يميلون للاندفاع أصبحت الكثير من الأسر تعيش تحت التهديد.

 

اتخذ مسار الذوبان أيضا مسارا طوعيا وأصبح هناك ما يعرف بـ"المسلم الثقافي" وهو الشخص ذو الأصول المسلمة لكنه لم يعد يمارس شعائر الدين أو يمارسها بشكل بالغ الضآلة كلون من الفلكلور الثقافي، ومن الممكن جدا أنه لم يعد مسلما من الناحية العقدية، فقد يكون مسلما ثقافيا ملحدا عقديا، حيث تحول الدين عنده لما يشبه العرق، وأصبح هناك مسلم ملحد كما هناك يهودي ملحد وانعكس ذلك بالطبع على تشرذم وتفكك الأسرة المسلمة اللاجئة التي ذاب أحد أفرادها وأصبح مسلما ثقافيا.

 

اندماج ولكن

 

المتابعة الأمنية الدقيقة للعائلات اللاجئة التي وصلت للمراقبة الأمنية لما يكتبه الأطفال في المدارس أشاع مناخا من التوجس والخوف بين العائلات اللاجئة يحول بينها وبين المشاركة الصحية في المجتمع، كما أن شيوع البطالة والسكن في الأحياء الفقيرة التي لا تتوفر فيها الخدمات اللائقة كرس حالة الاغتراب وصعب من المشاركة والاندماج للعائلات اللاجئة.

 

وعلى الرغم من ذلك حاولت العائلات اللاجئة المشاركة والاندماج فكان من نتائج ذلك ارتفاع معدلات الطلاق، فالنساء اللاتي اندمجن في الحياة الأوروبية حتى لا يتهمن بالانعزال، وسعيا وراء مستوى معيشي أفضل للأسرة حدث لديهن ما يشبه الصدمة الحضارية، بعد أن تعرفن على كمية القوانين الأسرية غير المتوازنة والتي تصب في صالح النساء.

 

كما أدى خروج اللاجئة للعمل إلى تغيير في الأدوار التقليدية داخل الأسرة، ومع اندلاع الخلافات الزوجية المعتادة أصبح الاحتكام للقانون أيسر من التحمل في سبيل الصالح العام للأسرة، خاصة مع غياب الحاضنة التربوية للعائلة الممتدة ومع الحرية المالية التي تمتعت بها المرأة اللاجئة، حيث توفر الدول الأوروبية دعما ماليا وقانونيا للنساء، فارتفعت معدلات الطلاق بشكل غير مسبوق.

 

لا يمكن أيضا أن ننكر أثر الضغوط النفسية التي تعيشها الأسر اللاجئة نتيجة تجربة اللجوء، مما يرفع من حالة التوتر والقلق ويقلل من مشاعر الأمان العاطفي وينعكس في النهاية في ارتفاع معدل الخلافات الزوجية، ومن ثم اللجوء للطلاق وتفكيك الأسرة اللاجئة.

 


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة