المشروع الإسلامي الثوري ومأزق الشرعية بين الثورة والدولة

 

تمثل الشرعية الثورية رأس المال الحقيقي لأي مشروع يسعى لإحداث تغيير جذري، سواء كان إسلامياً أم حراكاً شعبياً عاماً، وفي الحالة السورية، استمدت الثورة قوتها من محيطها السُّني المتعاطف معها؛ ما منح شعاراتها الأولى زخماً وشرعية واسعة؛ ولذلك، فإن الاندفاع المبكر نحو بناء دولة بمعايير تقليدية قد يؤدي إلى فقدان جوهر الثورة، خصوصاً في بيئة إقليمية ودولية تتوجس من صعود كيان سُني مستقل يخالف توازناتها ومصالحها.


مستقبل الإسلام السياسي في سورية





تأثير البيئة الإقليمية

لا شك أن البيئة الإقليمية المحيطة بسورية كانت عنصراً حاسماً في مسار الثورة؛ فمن جهة، رفد هذا المحيط السُّني الحراك بزخم كاريزمي، بحسب ماكس فيبر(1)، ومن جهة أخرى، واجهته قوى إقليمية ودولية تخشى قيام مشروع مستقل قد يغير المعادلات الموروثة، والمفارقة هنا أن أي محاولة لتكوين شرعية دولتية بسرعة كبيرة قد تفقد الثورة تأييدها الشعبي إن تعارض هذا التحول مع مبادئها العقدية أو أهدافها الثورية الأصلية.

أنماط الشرعية المختلفة

بحسب تصنيف فيبر لأنماط الشرعية (التقليدية، والعقلانية-القانونية، والكاريزمية)، تستند الحركات الثورية غالباً إلى الشرعية الكاريزمية التي تتشكل من التفاف الجماهير وحماستهم، لكن السعي نحو شرعية «عقلانية-قانونية» تحت مظلة وضع دولي يرفض كلياً أو جزئياً مبدأ التغيير الثوري، قد يعرض الحركة لفقدان قوتها الأساسية، ويتقاطع هذا الطرح مع رؤية فلاديمير لينين الذي ينسب إليه القول: «إن القضية الجوهرية في كل ثورة قضية السلطة»(2)، فمن دون حسم واضح لموقع الثوار وعقيدتهم من السلطة، قد ينتهي المطاف بهم إلى تقديم تنازلات تفقدهم حاضنتهم الشعبية.

من مصر إلى سورية.. بطل هنا وفارس هناك



نماذج حية

شهدت المنطقة العربية تجارب مماثلة، أبرزها النموذج المصري بعد ثورة يناير، إذ لم تتمكن القوى الإسلامية الثورية من الحفاظ على تماسكها بين الالتزام بمبادئها والاندماج في المؤسسات القديمة، ونتج عن هذه المساومات تآكل في شرعيتها لدى القاعدة الشعبية الثورية.

وفي المغرب، كانت تتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية تدريجياً كلما ابتعد عن توجهه الإسلامي، وأقر سياسات تتناقض مع انتظارات جمهوره، وتظهر هذه التجارب أن مصدر الفشل لم يكن الهوية الإسلامية بحد ذاتها، بل التفريط فيها أو التنازل عنها تحت ضغط السياق السياسي.

دور الإرادة الشعبية

في سورية، ما يزال المشهد ضبابياً بسبب غياب مشروع متكامل المعالم، في الفكر والممارسة على حد سواء، ويمكن النظر إلى تجربة إدلب، رغم الصعوبات، كنموذج مصغر لإدارة محلية تتطلع إلى بناء شرعية ذاتية، بيد أنها حين انتقلت إلى النموذج الأكبر (سورية) بدأت من اللحظة الأولى تواجه تحدي المحافظة على هذا المنجز في بيئة مليئة بالتدخلات الإقليمية والدولية.

وعلى ضوء أفكار جان جاك روسو عن العقد الاجتماعي، تتأكد أهمية الإرادة الشعبية بوصفها المنبع الأساس لأي شرعية سياسية(3)، فإذا فقدت الحركة الإسلامية الثورية دعم قواعدها أو فشلت في تلبية احتياجاتها الحقيقية، فلن يكون لأي اعتراف دولي قيمة مستدامة.



 من تحت الركام.. هل يبعث التعليم سورية من جديد؟



يتضح مما سبق أن المشاريع الإسلامية الثورية لا تسقط بسبب ثوريتها أو هويتها الإسلامية، بل حين تفرط في هذه الهوية أو تقدم تنازلات تتعارض مع جوهر المشروع الثوري، وفي الحالة السورية، قد تكون المناورة السياسية ضرورية لتفادي صدام مبكر مع خصوم أقوى، إلا أن الحفاظ على الحد الأدنى من المبادئ هو الضامن لاستمرار شرعية المشروع أمام جمهوره.

على هذا الأساس، تبدو الأولوية في تحقيق التوازن بين الثبات على المبادئ العقدية والخطاب الثوري من جهة، وإدراك واقع المصالح الإقليمية والدولية من جهة أخرى، فنجاح أي تجربة على غرار إدلب مرهون بمدى قدرتها على تحويل زخمها الكاريزمي إلى قاعدة صلبة، تستمد منها شرعيتها على المدى الطويل، دون الوقوع في شراك التحالفات الهشة أو المساومات السياسية التي قد تؤدي إلى انهيارها تماماً كما حدث في أماكن أخرى من المنطقة.

 

 

 

 

 

__________________

(1) ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع (Economy and Society)، (ترجمات ودراسات عربية متعددة الطبعات)، ينظر فصل «أنواع الشرعية» أو «أنماط السلطة».

(2) ينسب إلى فلاديمير لينين قوله: «القضية الجوهرية في كل ثورة هي قضية السلطة»، وهو خلاصة لفكرته الأساسية في الدولة والثورة (The State and Revolution)، ضمن الأعمال الكاملة (Collected Works)، تختلف الصياغات باختلاف الترجمات.

(3) جان جاك روسو، العقد الاجتماعي (Du Contrat Social)، ترجمة ودراسة عربية متعددة الطبعات، ينظر الفصلان الأول والثاني من الكتاب الأول، حيث يناقش مفهوم الإرادة العامة وسيادة الشعب.

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة