معالم الإفتاء الراشد في نوازل السياسة الشرعية

اهتم الصحابة وجيل السلف بفقه السياسة الشرعية منذ بواكير تاريخ الإسلام، وليس أدل على ذلك من انشغالهم بتعيين حاكم للدولة الإسلامية الناشئة يكون خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يدفنوا جسده الشريف، الذي تأخر لليوم التالي من الوفاة.
إلا أن الأحداث
والاجتهادات في فقه السياسة الشرعية المعاصرة تثبت يوماً بعد يوم فقر هذا النوع من
الفقه عن غيره من أنواع الفقه الأخرى، فنجد زخماً كبيراً في التصنيف والتأليف في
أبواب العبادات والمعاملات المالية وفقه الأسرة وغيرها من الأبواب، إلا أن باب فقه
السياسة الشرعية ما زال غير ناضج نضجاً سوياً، ولم ينل اهتمامه كما نالت الأبواب
الفقهية الأخرى.
الاجتهادات في فقه السياسة الشرعية
المعاصرة تثبت فقر هذا النوع من الفقه عن غيره
ولعل من أهم
أسباب ذلك طبيعة السياسة والحكم والزهد في الاهتمام والعناية بها، وقد يكون من
أسباب ذلك خشية طائفة من الفقهاء أن يظهروا اجتهاداتهم التي قد تكون سبباً في
إيذائهم؛ سواء إما في أنفسهم بالسجن أو التعذيب، بل والقتل، أو في أرزاقهم وقوت
عيالهم، فيفصلون من وظائفهم، أو التضييق عليهم بأنواع شتى، ويضاف إلى هذا –أيضاً-
أنه ليس كل فقيه أو مشتغل بالفقه عنده الملَكَة الفقهية والقدرة على الاجتهاد في
نوازل السياسة الشرعية.
ولهذا، كان
الإفتاء في نوازل السياسة الشرعية صعب المنال، معقداً إلى حد كبير، لا يفتح فيه
إلا على ثلة قليلة من العلماء الذين يجمعون بين التأصيل العلمي وخشية الله تعالى،
والصدع بالحق لا يخافون في الله لومة لائم.
وليس خفياً على
عاقل فضلاً عن أن يكون فقيهاً خطورة الفتاوى السياسية على الأمة كلها، حتى إنها
كانت أحد أهم أسباب إسقاط الخلافة العثمانية، حين أفتى مفتي الخلافة العثمانية
محمد ضياء الدين أفندي بجواز خلع السلطان عبدالحميد الثاني(1).
ضوابط
الإفتاء في نوازل السياسة الشرعية:
ومن هنا، كان
واجباً على كل فقيه أو مشتغل بالفقه من الباحثين وطلبة العلم أن يتهيأ لهذه المهمة
الصعبة قبل الخوض فيها، وألا يتسارع في القول والاجتهاد في تلك النوازل قبل أن
يتسلح بالتكوين العلمي الأصيل، والدربة والخبرة في صناعة الفتوى عامة وفي نوازل
السياسة الشرعية خاصة، وأن يكون من أهل الاجتهاد بشروطه، كما بيّنها العلماء في
كتبهم، ويضاف إليها بعض الضوابط الأخرى ذات الأهمية، ومن أهمها:
- التخصص
في الفقه:
من الواجب على
الفقيه السياسي أن يكون من الذين تخصصوا في علم الفقه خاصة دون غيره من العلوم،
فإنه لما كان فقه السياسة الشرعية من الأمور العامة، فإنه قد تجرأ عليه من ليس من
أهله من غير الفقهاء، خاصة ممن لهم ظهور إعلامي، وقد نبه الفقهاء إلى ذلك، كما قال
ابن الجوزي في «صيد الخاطر» وغيره، وبين الفجوة خاصة بين الفقهاء والمحدثين، وبيّن
أن من العلماء من غير الفقهاء من يقع في أخطاء لا يقع فيها صغار طلاب العلم.
- معرفة
الواقع السياسي:
ومن أهم ضوابط
الإفتاء في نوازل السياسة الشرعية معرفة الواقع السياسي الذي يفتي فيه، وأن يلم
بالمعلومات في المسألة إلماماً كبيراً، ويحيط بملابساته، وأن يعرف عنها أدق
التفاصيل بكل وسيلة ممكنة، سواء من الخبراء في المسألة السياسية محل الإفتاء، أو
من خلال القراءة المعمقة من البحوث والدراسات والمقالات المتخصصة، وألا يكتفي
بقراءة الصحافة، وألا يفهم المسألة بالذوق، أو بالعاطفة، أو بجمع المعلومات من بعض
الأشخاص المقربين منه.
الإفتاء في نوازل السياسة الشرعية من أصعب
أنواع الفقه والإفتاء فيه صاحبه على خطر
ولهذا، اشترط
ابن القيم وغيره على الفقيه المجتهد معرفة نوعين من الفهم؛ فهم الواقع، وفهم
الواجب في الواقع، وكيفية إنزال النصوص الشرعية على ذلك الواقع(2).
- فقه
الموازنة بين المصالح والمفاسد:
وهذا الفقه هو
لب الفقه السياسي في الإسلام، لا سيما مع قلة النصوص الواردة في الفقه السياسي،
على اعتبار قيام السياسة على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهنا يختلف نظر الفقهاء
في المسائل السياسية بناء على اختلافهم في تقدير المصالح والمفاسد، لكن المشكلة
الأكبر هو عدم قدرة الفقيه في إدراك مراتب المصالح والمفاسد خاصة في الشأن
السياسي، ومن هنا يقع كثير من الفقهاء في الخطأ عند اجتهادهم في المسائل السياسية،
بل لا نكون مبالغين إن قلنا: ندر من الفقهاء اليوم من يستطيع خوض ذلك الغمار،
فغالب الاجتهادية السياسية اجتهادات سطحية، يعوزها العمق.
- مراتب
المصالح والمفاسد:
ومن هنا نبه
الفقهاء إلى المصالح والمفاسد لها رتب، فتنقسم المصالح إلى: الحسن والأحسن،
والفاضل والأفضل، كما تنقسم المفاسد إلى القبيح والأقبح، والرذيل والأرذل، ولكل
واحد منها رتب؛ عاليات، ودانيات، ومتوسطات متساويات وغير متساويات.
ومن رتب المصالح
والمفاسد: أن مصالح الإيجاب أفضل من مصالح الندب، ومصالح الندب أفضل من مصالح
الإباحة، كما أن مفاسد التحريم أرذل من مفاسد الكراهة(3).
ومن التنبيهات
المهمة أن مصالح الدنيا ومفاسدها تعرف بالتجارب والعادات(4)، وليس كل
الفقهاء يطلع على التجارب والعادات.
- الترجيح
بين المصالح والمفاسد:
ومن فقه المصالح
والمفاسد معرفة الترجيح بينها، وهي في الجملة إما أن تكون مصلحتين، فيجمع بينهما،
فإن تعذر؛ قدمت المصلحة الأعلى على الأدنى، وإما أن تكون مفسدتين، فتُدفع كلتاهما،
فإن تعذر؛ دفع المفسدة الأكبر، وإما أن تكون بين مصلحة ومفسدة، فإن كانت المصلحة
أكبر والمفسدة أدنى؛ انشغل بتحصيل المصلحة الأكبر، وإن كانت مفسدة أكبر ومصلحة
أدنى؛ انشغل بدفع المفسدة الأكبر، وإن تساوت المصلحة والمفسدة؛ انشغل بدفع المفسدة
مع فوات المصلحة.
- اختلاط
المصالح والمفاسد:
ثم من فقه
المصالح والمفاسد أن يعلم أنه قد تنشأ المصلحة عن المفسدة، والمفسدة عن المصلحة،
وقد تنشأ المفسدة عن المفسدة، والمصلحة عن المصلحة، وقد تقرن المصلحة بالمفسدة،
ولا تنشأ إحداهما عن الأخرى، وإذا ظهرت المصلحة أو المفسدة؛ بني على كل واحدة
منهما حكمها، وإن جهلنا استدل عليهما بما يرشد إليهما، وإذا توهمنا المصلحة
المجردة عن المفسدة الخالصة أو الراجحة؛ احتطنا لدفعها، ويتساوى في ذلك مصالح
الدنيا والآخرة في جريان تلك القواعد عليهما(5).
- قاعدة
اعتبار المآلات:
ومن أهم قواعد
فقه السياسة الشرعية اعتبار المآلات، وألا يقتصر عمل الفقيه السياسي على مجرد
التوصل إلى الحكم الشرعي فقط، بل عليه أن ينظر ما تؤول إليه الأمور والأفعال، فقد
يكون الأمر مشروعاً أو ممنوعاً لكنه يؤول إلى خلاف المقصود(6).
ومثال ذلك
امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين؛ حتى لا يقال: إن محمداً يقتل
أصحابه، وامتناعه عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ لحداثة القوم بالإسلام،
وخشية حصول فتنة، ونهيه عن زجر الأعرابي حين بال في المسجد؛ خشية حصول نجاسة في
مواضع أخرى.
- المَلَكة
الفقهية:
ومن شروط
الإفتاء الراشد في قضايا السياسة أن يكون لدى الفقيه السياسي مَلَكة فقهية تؤهله
للتصدي لمثل هذا النوع من الإفتاء، فلا يكتفى بانشغاله بالفقه، وإذا كان العلماء
قد نصوا على وجوب حصول تلك الدرجة للفقيه عامة، فهي في حق الفقيه السياسي أوجب، بل
هي من أوجب الواجبات في حقه.
من ضوابط
الإفتاء في نوازل السياسة الشرعية:
- التخصص في الفقه
- معرفة
الواقع السياسي
- الموازنة
بين المصالح والمفاسد
- التجرد من
كل المؤثرات
الاجتهاد الجماعي بقضايا الأمة
يقول الإمام
الجويني: «وأهم المطالب في الفقه التدرب على مأخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا هو
الذي يسمى فقه النفس، وهو من أنفس صفات علماء الشريعة»(7).
- التجرد
من كل المؤثرات:
فإن المتكلم في
فقه السياسة إن كان متأثراً بحزب سياسي أو فكر معين، أو تيار أو اتجاه؛ فلا بد
محالة أن يكون متأثراً به في اجتهاده، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله، وكم وقع
بعض المتكلمين في الشأن العام من الدعاة أو بعض الفقهاء في أخطاء جسيمة بسبب
تأثرهم بفكرهم أو حزبهم أو تيارهم، فالخصومة الكامنة في النفس لتيار منافس أو
معاد، غالباً ما تظهر في فتاواه، وإن أظهر أنه يبحث عن الحق، وأنه متجرد، وما ذاك
إلا بعدم تجرده، مع الجهل بفقه السياسة الشرعية.
ومنهم من يسارع
في الإفتاء بقتل من لا يجوز قتله، لأجل معارضة سياسية، أو يدعي جواز القتل بالتسبب
دون أن يتثبت من حصول التثبت مع كونه خلاف جماهير الفقهاء، وربما جر بعضهم الشباب
في مواجهات غير محسوبة أضرت أكثر مما نفعت، وما ذاك إلا بسبب عدم التجرد.
وقد نبه الإمام
ابن القيم إلى ذلك، فقال: «فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل
فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ناظراً بعين
الإنصاف.. فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما
سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق»(8).
- الاجتهاد
الجماعي في قضايا الأمة:
ومن سمات
الإفتاء الراشد في قضايا السياسة الشرعية ألا ينفرد عالم أو فقيه برأي في قضية من
قضايا الأمة الكبرى، فإن العقل الواحد قاصر، وتمامه مع عقول إخوانه من العلماء،
والخطر كل الخطر أن يتكلم آحاد الفقهاء في قضايا الأمة على الملأ من شاشات التلفاز
أو الإذاعة أو غيرها من وسائل الإعلام العامة، فهنا تزل الأقدام مهما كان العالم
كبيراً، فثمة فرق بين تحبير المسائل والتريث فيها بالنظر والكلمات المرسلة على
الهواء مباشرة، فضلاً عن أن تكون من شخص، مهما علا كعبه، أو اغتر بشهرته.
وقد نبه الله
تعالى على وجوب ذلك بقوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى
أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، يقول الطاهر ابن عاشور: «أي: يردُّونه إلى جماعة أُولي
الأمر، فيفهمُه الفاهمون من أُولي الأمر، وإذا فهمه جميعهم فأجدَر»(9).
إن الإفتاء في
نوازل السياسة الشرعية من أصعب أنواع الفقه، والإفتاء فيه صاحبه على خطر، ومن هنا
كان حصانة الاجتهاد الجماعي أولى من الانفراد فيه، وليعلم الفقيه أنه موقع عن الله
تعالى في تلك القضايا الحساسة، فليوغل فيها بحكمة، مع تجرد القلب والعقل لله،
ساعياً كشف ما يراه حقاً؛ مع اعتقاده أنه مجتهد قد يخطئ، فإن رأى لغطاً أو تشويشاً
فالسلامة بالسكوت أولى، واضعاً نصب عينيه مآلات قوله: «فإن الرجل يتكلم بالكلمة من
سخط الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً».
________________________
(1) راجع: صحوة
الرجل المريض، موفق بن مرجه، ص 410، وتاريخ الدولة العلية، محمد فريد، ص 709-710.
(2) راجع: إعلام
الموقعين، ابن القيم (1/ 69).
(3) الفوائد في
اختصار المقاصد، العز بن عبدالسلام، ص 39.
(4) المرجع السابق،
ص41.
(5) ترتيب
الفروق واختصارها، البقوري (1/ 44).
(6) راجع:
الموافقات، الشاطبي، ج 4، ص 194-195.
(7) الغياثي، ص
404.
(8) مفتاح دار
السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 141).
(9) «التحرير
والتنوير» (4/ 203).