حكم الاستعانة في القتال بغير المسلمين والمسلمين المخالفين.. حقائق وغايات

 

هذا البحث يتناول مسألة مهمة تجدد حولها النقاش واحتد، بسبب ما نحياه في عالمنا الإسلامي، من أوضاع كارثية وعدوان غاشم وإبادة جماعية على إخواننا في غزة، يرتكبها عتاة الإجرام ودولة الإرهاب الكيان الصهيوني ومن خلفه، في مقابل عجز مريب من أمة المليار ونصف المليار عن توفير كل الدعم اللازم لتقوية صفوفهم، وإغاثتهم، والدفاع عنهم، وعن مقدسات الأمة.

وفي هذا الظرف العصيب، ومع قيام إخواننا المقاومين بكل ما يستطيعون، من التضحيات، وفقْد الأهل والأولاد والأموال والممتلكات في سبيل الصمود والمحافظة على وطنهم، كل هذا دون دعم عسكري من مسلمي دول الطوق، وتخلِّي الأقربين وعجزهم عن واجبهم، فكان أن احتاج هؤلاء المرابطون إلى قبول الدعم من قبل الجمهورية الإيرانية، التي يرتاب في مواقفها كل سُني، ولا يتوقع منها خيراً، ولكنهم اضطروا اضطراراً لقبول مساعدتهم، والانتفاع بالقليل من إمداداتهم، التي مكنتهم من امتلاك بعض السلاح الذي يدافعون به عن دينهم ومقدساتهم، وأرضهم، وأعراضهم، مع التأكيد على عدم وجود إيرانيين يقاتلون في فلسطين، وإخواننا المرابطون من أهل السُّنة والجماعة، وكثير منهم علماء وطلبة علم وحفّاظ قرآن.

علماء الإسلام متفقون على جواز الاستعانة بغير المسلمين بالقتال سواء كانوا حربيين أو ذميين أو مستأمنين

وفي هذا السياق، ورغم ما وصفنا من الحال، راح بعضهم ينكر على الغزيين المقاومين ويستنكر قبولهم المساعدة والاستعانة بإيران، واتهموا المقاومين بالانحراف، وأنهم أتباع لإيران؛ ارتموا في أحضانها، ويأتمرون بأوامرها.. ومن هنا نرى واجباً، بيان حكم الاستعانة في القتال بأمثال هؤلاء، وغيرهم، وقبول معونتهم، ومساعدتهم.

إن علماء الإسلام متفقون على جواز الاستعانة بغير المسلمين في القتال سواء كانوا حربيين، أو ذميين، أو مستأمنين، وكذلك ومن باب أولى الاستعانة بالمنافقين، والفاسدين، وأهل الأهواء والبدع، والفرق المنحرفة، والبغاة المنتسبين للإسلام، فهذه الأصناف، من المسلمين وغيرهم، يجوز بلا خلاف -عند الضرورة والحاجة الشديدة- الاستعانة بهم في مصلحة المسلمين مع شروط معتبرة لا بد من توفرها، وهي:

1- العجز عن القتال بدون المساعدة والاستعانة.

2- عدم التفريط في ثوابت دين الإسلام.

3- عدم تأثر عقيدة الأمة.

4- أمن الخطر من جانبهم.

5- القدرة على دحر شرهم.

والاستعانة بأي أحد ممن يجوز الاستعانة بهم في القتال، يجب أن تكون مع تحصيل مقاصد تلك الاستعانة، التي منها: درء خطر الأعداء الداهم على بلاد المسلمين، وحفظ الدين والنفوس والممتلكات والمقدسات، وتوفير السلاح بيد المسلمين الرادع للأعداء، وتقوية الصفوف، ودعم صمود المجاهدين المقاومين للعدو، وتحقيق النصر المنشود، والتحرير للمقدسات.

ابن باز: إذا دعت الحاجة والضرورة وجب دفع الشر بالممكن سواء كان بمسلم أو كافر أو عاص أو منافق

وفيما يلي عرض نماذج من كلام الفقهاء:

1- قال الإمام أبو بكر الجصّاص الحنفي: «وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانُوا مَتَى ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا لَوْ ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ»(1).

2- قال محمد بن يوسف أبو عبدالله الموّاق المالكي: «وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ»(2).

3- قال الإمام النووي الشافعي: «تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْمُشْرِكِينَ فِي الْغَزْوِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسَنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ»(3).

4- وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: «أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِعَانَةَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِهِ فِي الْقِتَال عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِشُرُوطٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ رِضَاهُ.. وقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الْبَغْيِ عَلَى الْكُفَّار(4).

5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس»، وسئل ابن تيمية عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة فأجاب: «الحمد للَّه كل من كان مؤمناً بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواءً كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفارٌ كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافراً به، ولو قُدِّرَ أنه يَكْفُرُ، فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم»(5).

الاستعانة في القتال بغير المسلمين وغيرهم لا يدخل في مسائل العقيدة ولا صلة له بالولاء والبراء

6- وللشيخ العلَّامة عبدالعزيز بن باز فتاوى بارزة في هذا الأمر، ملخصها: «إذا دعت الحاجةُ والضَّرورة وجب دفع الشرِّ بالممكن، سواء كان بمسلمٍ أو كافرٍ أو عاصٍ أو منافقٍ عند الضَّرورة، بشرط مراعاة السلامة، وأن الغالب السلامة والنفع بهذا المستعان به ضد العدو المستعان عليه»(6).

وله في موضع آخر قوله: «والمقصود أن الاستعانة تختلف فإذا كانت الاستعانة ليس فيها خطر كاستعانة بدروع أو بمدافع أو بدبابات أو برصاص أو بأشياء تنفع الغزو لا بأس أن يستعين بمشرك بهذا إذا رأى المصلحة في ذلك والحاجة في ذلك؛ لأنه بعيد عن المسلمين ولا يضرهم وجوده، والمال الذي أخذ منه من الدروع والمدافع والطائرات ونحو ذلك تنفع المسلمين وتعينهم على عدوهم»، وقال أيضاً: «ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبدالله بن أبي وأصحابه».

وهنا نؤكد أمرين:

الأول: الاستعانة في القتال بغير المسلمين وغيرهم، لا يدخل في مسائل العقيدة، ولا صلة له بالولاء والبراء، فهو عمل سياسي، تحكمه المصلحة والحاجة والضرورة، يؤيد ذلك تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم وتعدد مواقف الاستعانة بالكفار، بل والتحالف معهم.

الثاني: أن ما ذهبت إليه المقاومة الإسلامية الفلسطينية من قبول مساعدة إيران لم يكن استحساناً لمذهبها، أو تأثراً بعقائدها، أو نشراً لفكرها المخالف للسُّنة والجماعة، بل كان اضطراراً شديداً، وحاجة ملحة لحفظ الأنفس، والدفاع عن الدين والمقدسات؛ وهذا ما سوّغ قبول الاستعانة بها، مع الخطر المحقق، والعدوان الصارخ، وانعدام القريب المعاون(7).

 

 

 

 

_________________________

(1) أحكام القرآن، أحمد بن علي أبو بكر الجصاص الحنفي (2/ 559)، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية بيروت، 1415هـ/ 1994م.

(2) التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف أبو عبدالله المواق المالكي (4/ 545)، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية 1416هـ/ 1999م.

(3) روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (10/ 239)، الطبعة الثالثة بيروت، المكتب الإسلامي، 1412هـ/ 1991م.

(4) الموسوعة الفقهية الكويتية (4/ 18-19)، الطبعة الأولى القاهرة، هجر للطباعة، 1415هـ/ 1995م.

(5) كتاب الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي، الفرع الثاني، أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع، ص247، ومجموع الفتاوى (28/ 212-213)، و(35/ 201).

(6) الموقع الرسمي للشيخ الإمام ابن باز، فتاوى الدروس، حكم الاستعانة بالكفار في مصلحة المسلمين.

(7) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ الإمام ابن باز (6/ 188)، الناشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة