أكد الدكتور وصفي عاشور أبو زيد – أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية- أن هناك تخوفا كبيرا لدى قطاع عريض من المثقفين وطلبة العلم من استخدام المقاصد وإعمالها في فهم النصوص وتطبيقها وتنزيلها، مرجعا سبب هذا التخوف إلى استخدام البعض للمقاصد استخداما خاطئا، سواء أكان هذا الخطأ عن جهل أم عن عمد.
وأضاف أبو زيد في الجزء الثالث من حواره مع موقع “المجتمع” أن علم المقاصد كبقية العلوم نشأ وتطور وتجدد، وبدأت امتداداته من نصوص القرآن والسنة، ثم طبقها الصحابة والتابعون، الذين كانوا أعرف الأمة بالمقاصد، مؤكدا أن مستقبل المقاصد إلى نمو وازدهار، وتوسيع مجال عملها وتفعيلها؛ حيث أصبح لها مناهج ومقررات وأعلام ومؤلفات وندوات ومؤتمرات ومصطلحات وقواعد…
فإلى تفاصيل الحوار:
- هل المقاصد قابلة للزيادة أم أنها خمسة فقط؟
المقاصد الضرورية الكلية الخمس أو الست –على خلاف بين الأصوليين- غير قابلة للزيادة؛ لأن طريقها الاستقراء، لكن زوايا النظر للمقاصد وتراتب بعضها على بعض يجعلها مضاعفة تتوالد ويُولّد بعضُها بعضًا بصورة تكاد تكون غير متناهية.
فالمقاصد الشرعية تنقسم باعتبارات متنوعة لزوايا النظر فيها إلى أقسام:
1- باعتبار المصالح التي جاءت بحفظها تنقسم إلى ضروريات تشمل هذه الكليات (حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب)، وحاجيات، وتحسينيات.
2- وباعتبار مرتبتها في القصد تنقسم إلى: مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية.
3- وباعتبار الشمول تنقسم إلى: مقاصد عامة، وخاصة، وجزئية.
4- وباعتبار محل صدورها ومنشئها تنقسم إلى: مقاصد الشارع، ومقاصد المكلف.
5- وباعتبار وقتها وزمن حصولها تنقسم إلى: مقاصد دنيوية، ومقاصد أخروية.
6- وباعتبار القطع والظن تنقسم إلى: مقاصد قطعية، ومقاصد ظنية.
وإذا تتبعنا هذه التقسيمات لكتبنا الشيء الكثير، فهذه المقاصد إذا وضع بعضها تحت بعض، وتفرع بعضها عن بعض لصنعت (متوالية مقاصدية) تتعاظم فيها أنواع المقاصد، ويكون لها أثرها في الفهم والترجيح، والتقديم والتأخير.
وقد نحا الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية – رحمه الله تعالى – في كتابه (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) نحوا آخر؛ حيث انتقل من الكليات الخمس الضرورية، إلى ما أسماه بالمجالات الأربعة، وجعل المقاصد أربعة وعشرين مقصدا بدلا من المقاصد الخمسة، ووزعها على أربع مجالات، هي:
1- مقاصد تخص الفرد، وهي خمسة: حفظ النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال.
2- مقاصد تخص الأسرة، وهي سبعة: تنظيم العلاقة بين الجنسين، وحفظ النسل، وتحقيق المودة والرحمة، وحفظ النسب، وحفظ التدين في الأسرة، وتنظيم الجانب المؤسسي للأسرة، وتنظيم الجانب المالي للأسرة.
3- مقاصد تخص الأمة، وهي سبعة: التنظيم المؤسسي للأمة، وحفظ الأمن، وإقامة العدل، وحفظ الدين والأخلاق، والتعاون والتضامن والتكافل، ونشر العلم وحفظ عقل الأمة، وعمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة.
4- مقاصد تخص الإنسانية، وهي خمسة: التعارف والتعاون والتكامل، وتحقيق الخلافة العامة للإنسانية في الأرض، وتحقيق السلام العالمي القائم على العدل، والحماية الدولية لحقوق الإنسان، ونشر دعوة الإسلام.
وأما شيخنا الإمام الدكتور يوسف القرضاوي فله كلام هنا أيضا؛ حيث نظر نظرة عامة في رسالة الإسلام، فوجد أن مقاصده الأساسية وأهدافه العامة تتمثل في ستة مقاصد، هي:
1 ـ بناء الإنسان الصالح. 2 ـ بناء الأسرة الصالحة. 3 ـ بناء المجتمع الصالح. 4 ـ بناء الأمة الصالحة. 5 ـ بناء الدولة الصالحة. 6 ـ الدعوة إلى خير الإنسانية.
ويفصل الشيخ في المقصد الثاني الخاص بالأسرة ـ كما يُفصِّل في غيره ـ من خلال أفكار مهمة، فيتحدث عن أفكار منحرفة عارضت الزواج، وترغيب الإسلام في الزواج، وعن مقاصد الإسلام من الزواج، ووصايا للراغبين في الزواج، وحقوق المعاشرة بين الزوجين، مستشهدا لذلك كله من القرآن الكريم وهدي النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ معلقا على هذه المقاصد: “فهذه كليات خمس أخرى، قصد الإسلام ـ بقرآنه وسنة نبيه ـ أن يحققها في حياة البشر، وتدور أحكامه عليها”.ا.هـ.
إذن يتبين لنا أن المقاصد لا تنحصر، وهي كثيرة ومتنوعة بتنوع زوايا النظر إليها.
– هل هناك تباين بين ما كتبه العز بن عبد السلام وغيره من علماء المقاصد وبين تطبيقاتهم له فيما كتبوه من فقه وفتاوى؟
العز ابن عبد السلام أَعتبره إمام المقاصد الأول الذي يعد كتابه “القواعد الكبرى” من الكتب الفريدة في تراثنا؛ حيث لم يُكتب قبله مثله، ولا بعده مثله، وهو أول كتاب وضع قواعد منظمة للعمل بجلب المصالح ودرء المفاسد.
ومن ميزات العز بن عبد السلام -ومن يشبهه من العلماء- أنه مجدد في أفكاره، ومبدع في أسلوبه، وميسر في صياغته، وأمثلته متجددة وجديدة ومتنوعة، ما بين أمثلة من الشريعة والدين، وأمثلة من العقل والحياة، وأمثلة من الطب والاجتماع والزراعة والصناعة وغيرها.
فهو يستقرئ من الشريعة قواعد كبرى، وهي في نظري نظريات فقهية متكاملة، ويفرع منها قواعد كبيرة، ويقيم عليها الأدلة من الشرع والعقل والدين والدنيا بما يحقق الإبهار للقارئ، ويجعل عقله وقلبه مطمئنين لما كتبه الإمام.
ويمكن القول هنا بأن سلطان العلماء تمتع بالجمع بين عمق العلم، ويسر العرض، وجمال الأسلوب، والجمع بين العلم والعمل والجهاد، وتميز بالرسوخ في العلم والصدع بكلمة الحق، وتحمل في هذا المزيد من العناء والهجرة والأذى راضيا مرضيا.
وأود أن أشير إلى أن هناك من العلماء من هم راسخون في علوم الأصول والمقاصد، وغيرها، بيد أنك تجد فتاواهم في النوازل ومواقفهم في الحياة لا تعبر عن فقههم ورسوخهم، وإنما تعبر عن نفوس ضعيفة نتيجة ضعف عقيدتها وانطفاء يقينها وبعدها عن الله، ورغبتها في إيثار السلامة والركون إلى الدنيا؛ فضلا عمن يسارعون في رضا الحكام الجائرين، وقد كان العز بن عبد السلام نموذجا للعلماء الربانيين الذين يصدعون بالحق، ولا يخافون في الله لومة لائم، رحمه الله ورحم علماءنا الصادقين الربانيين.
– هل تطورت نظرية مقاصد الشريعة في مسارها التاريخي نحو الأفضل؟
لا شك أن العلوم كالكائنات الحية تولد وتتطور وتتجدد، ويُولَد بعضُها من بعض، ويُولّد بعضُها بعضًا، وعلم المقاصد كبقية العلوم نشأ وتطور وتجدد، وبدأت امتداداته من نصوص القرآن والسنة، ثم طبقها الصحابة والتابعون، الذين كانوا أعرف الأمة بالمقاصد؛ حيث قال ابن القيم: “وقد كانت الصحابة أفهمَ الأمة لمراد نبيها وأتبعَ له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده”. ووصف شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي الصحابةَ بأنهم “عرفوا مقاصد الشريعة فحصّلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها”.
وكتب أئمة من أئمة الإسلام عن المقاصد منهم: الترمذي الحكيم والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية وابن القيم وابن عاشور وعلال الفاسي، ثم ظهرت الصحوة المقاصدية قبل أربعة عقود من الزمان، وانتشر الاهتمام بها انتشارا واسعا.
ومن علامات تطوير علم المقاصد وضْع قواعد له، وفيها رسائل ماجستير ودكتوراه، حتى كان أكبر عمل جامع لها وهو ضمن معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية التي خصصْت قسما منها للقواعد المقاصدية وأحصت أكثر من مائة وثلاين قاعدة، كذلك وضع كتاب: “معجم المصطلحات المقاصدية” لمجموعة من الباحثين بإشراف أستاذنا العلامة أحمد الريسوني، وهي أمور لها دلالتها على نضج العلم واستقلاله، وها هي الندوات والمؤتمرات تعقد للمقاصد تأصيلا وتطبيقا وتفعيلا.
– البعض يتهم نظرية المقاصد بأنها بوابة للعلمانية والتحلل من النصوص.. كيف ترون هذا الاتهام؟
هذا الاتهام نابع من عدم فهم المقاصد وعدم فهم الشريعة معا، فتركيب “مقاصد الشريعة” كفيل وحده بدفع هذا الاتهام، ومعناه: أن المقاصد بنت الشريعة ومضافة إليها، وأن الشريعة لا تفهم إلا في ضوء المقاصد؛ فلا يمكن للمقصد أن يعطل النص، ولا أن يتعارض معه؛ لأن المقاصد مستثمرة من الشريعة، ولا يمكن للمستثمَر أن يتعارض مع المستثمَر منه.
فضلا عما للمقاصد من مسالك يكشف عنها من خلالها، فلا تؤخذ المقاصد إلا عن مسالكها، وما أصبح للمقاصد من قواعد وضوابط اعتبار ومصطلحات، كل هذا يحول دون الإفراط أو التفريط، ودون التهيب أو التسيب في العمل بالمقاصد.
وهناك تخوف كبير لدى قطاع عريض من المثقفين وطلبة العلم من استخدام المقاصد وإعمالها في فهم النصوص وتطبيقها وتنزيلها، وهو تخوف نابع من استخدام البعض للمقاصد استخداما خاطئا، سواء أكان هذا الخطأ عن جهل أم عن عمد.
وهذا الاستخدام الخاطئ هو عمل اتجاه في الساحة المعاصرة أطلق عليهم شيخنا الإمام يوسف القرضاوي “المعطلة الجدد”، وهي مدرسة تزعم أنها تُعنى بالمقاصد وروح الدين مدعية أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، ترد صحيح الحديث؛ لأنهم في الحقيقة لا يعرفون صحيحه من ضعيفه، يتأولون القرآن تأويلات فاسدة، ويتمسكون بالشبهات، وقد سمّاها الشيخ “مدرسة المعطلة” الجدد ورمز لها بـ”تعطيل النصوص باسم المصالح والمقاصد”، وقد ذكر من سماتها وخصائصها ثلاثة أمور، هي: الجهل بالشريعة، والجرأة على القول بغير علم، والتبعية للغرب.
أما عن مرتكزات هذه المدرسة فيؤكد الشيخ أنها تعلي منطق العقل على منطق الوحي، وتدعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطَّل النصوص باسم المصالح ورعاية المقاصد مثلما فهموا من إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، أو رفعه لحد السرقة عام الرمادة، وناقش الشيخ الشبهتين نقاشًا علميًّا هادئًا.
أما النتائج والمواقف التي أسفرت عنها هذه المدرسة –بحسب ما أورد شيخنا الإمام في كتابه: دراسة في فقه مقاصد الشريعة- فهي الهروب من النصوص القطعية، والتشبث بالمتشابهات، ومعارضة أركان الإسلام وثوابته باسم المصالح.
وللتخلص من هذا التخوف النابع من تطرف المعطلة الجدد لا بد من انتهاج الوسط في التعامل مع المقاصد من خلال البحث عن المقصد بطرقه المعروفة قبل إصدار الحكم، وفهم النص في ضوء أسبابه وملابساته، والتمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، والملاءمة بين الثوابت والمتغيرات، والتمييز في الالتفات إلى المعاني بين العبادات والمعاملات.
– كيف ترون مستقبل علم المقاصد؟
مستقبل المقاصد في نظري إلى نمو وازدهار، وتوسيع مجال عملها وتفعيلها، فقد أصبح للمقاصد مناهج ومقررات وأعلام ومؤلفات وندوات ومؤتمرات ومصطلحات وقواعد، وتنامى الاهتمام بها، وانتشرت مراكزها، بل برامج تسمى “مقاصد” على الفضائيات، وهذا يدل على حاجة عصرنا إلى هذا الفكر.
وقد تأملت في تاريخ المقاصد وأعلامها فوجدت أن الاهتمام بها ارتبط بعلماء إصلاحيين ومجددين، واستُدعيَ في فترات نهضات وتطوير، ونحن الآن في عصر مشابه لهذا ويحتاج لهذا الفكر، وحسبنا أن الذي أحيا الاهتمام بالفكر المقاصدي عمومًا في عصرنا هو الإمام محمد عبده، الذي كان عصره عصر تطوير ونهضة، فكان له الفضل في لفت الأنظار إلى الشاطبي وجهوده المقاصدية، ونفض التراب عن الموافقات، وطبعه وتدريسه وتوصيته به، ثم تبعه بعد ذلك تلامذته الذين أسهموا بنصيب وافر في هذا المجال، أمثال ابن عاشور والفاسي والخضري، وغيرهم.
كما ارتبط أيضًا الاهتمام بالتفكير المقصدي بفترات مواجهة مع أعداء، وجهاد ضد محتلين (ابن تيمية وابن القيم، وابن عبدالسلام، والشاطبي، وابن عاشور، وعلال الفاسي نماذج واضحة تاريخيًّا). وهذا يؤسس لأهمية جديدة للمقاصد، وما لها من دور في تحرير الأرض ومقاومة العدو، وارتبطت كذلك بفترات الغزو الفكري، وإثارة الشبهات، وفترات الضعف الحضاري الإسلامي حين تصبح الأمة المسلمة هي الطرف الضعيف في العالم، وهنا تتراوح ردود الفعل بين تقوقُع وتخندُق؛ حفاظًا على الهوية، وبين انفتاح ومبادرة عبر الاستنجاد بفلسفة التشريع الإسلامي والفكر المقاصدي لدحض الافتراءات، وإزالة الشبهات، وترسيخ الواضحات والكليات، وهذا يؤسس لدور جديد آخر للمقاصد في تحرير الأمة فكريًّا وعقديًّا، وأهميتها في حفظ الهوية للأمة المسلمة.