أوضح علماؤنا أن من الممكن قياس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام، فلدفع هذه الشبهة نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) (البقرة: 198)؛ أي تطلبوا عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والاسترباح منها.
كما أن في الآية إشارة إلى أن ما يبتغيه الحاج هو من فضل الله مما يعينه على قضاء حقه ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدّين، فهو محمود، وما يطلبه لاستبقاء حظه، أو لما فيه نصيب نفسه، فهو معلول.
ثم إن الشبهة كانت حاصلة في حرفة التجارة في الحج من وجوه، منها: أن الله سبحانه منع الجدال وفي التجارة جدال، وأن التجارة محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية.
يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره: لما أمر الله سبحانه بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخّص في التجارة وهي من فضل الله.
ومن رحمته سبحانه أن سمّى إباحة البيع والشراء والكراء في الحج، ابتغاءً من فضله، ليشعر مَنْ يزاولها أنه يبتغي من فضله، حين يتجر، وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق.
ومتى ما استقر في قلب الحاج إحساس بأنه يبتغي من فضل الله حين يكسب ويحصل على رزقه، فهو، إذن، في حالة عبادة لله تعالى، لا تتنافى مع عبادة الحج.
ومن أجل ذلك، فلقد أمر عز وجل عباده المسلمين الحجاج بالتزود لرحلة الحج، فقال سبحانه: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: 197).
يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره: أمر الله سبحانه عباده باتخاذ الزاد، حيث كانت طائفة من العرب تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك وأمروا بالزاد.
وغير خاف أن التزود يشمل التزود للأسفار الدنيوية، والتزود للأعمال الصالحة، فقد قال علماؤنا: أمر عز وجل بالتزود لسفر العبادة والمعاش، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال، وبالتزود لسفر المعاد، وزاده التقوى والعمل الصالح.
كما أن في الآية دعوة للتزود في رحلة الحج، زاد الجسد وزاد الروح، فقد جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام، والتقوى زاد القلوب والأرواح.
إن الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر بشري عظيم، يجد فيه المسلمون أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع المادية الاقتصادية والمعنوية الفكرية والثقافية والإعلامية.
يقول عز وجل في كتابه العزيز: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28}) (الحج).
قال المفسرون رحمهم الله: إن الله سبحانه لما أمر بالحج في قوله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، ذكر حكمة ذلك الأمر بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
واختلف المفسرون في هذه المنافع، إذ حملها بعضهم على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة، وبعضهم الآخر حملها على منافع الدنيا، وهي التجارة في أيام الحج.
والأولى حملها على الأمرين جميعاً، يقول ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره: والأصح مَنْ حملها على منافع الدارين جميعاً، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنما الأصل قصد الحج والتجارة تبع.
ثم إن المنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام كثيرة، فهناك المنافع الروحية التي تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، وهناك المنافع الاقتصادية المادية إذ يعتبر الحج مؤتمراً إسلامياً لحل مشكلات المسلمين الاقتصادية، كما أن في الحج رواجاً اقتصادياً للمسلمين من خلال توزيع وتبادل وبيع وشراء السلع والخدمات اللازمة، إضافة إلى منافع البُدْن والذبائح للفقراء والمساكين والمحتاجين، ومنافع التجارة وكسب المعيشة أيام الحج خاصة. ولذا، قال عز وجل في محكم كتابه وهو يخاطب سبحانه عباده المؤمنين الحجاج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ).
___________________________________________
(*) مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
للتواصل: zrommany3@gmail.com