منذ ستينيات القرن الماضي والمجال الأكاديمي والسياسي يسمع لمقولة: «إن العالم العربي بإمكانه أن يكون سلة غذاء العالم، عبر اليد العاملة المصرية، والأراضي الخصبة السودانية، ورأس المال الخليجي»، لكن بعد نحو 6 عقود من الزمن، تزداد الفجوة الغذائية في الوطن العربي، وأصبح الثلاثي المطروح في المقولة السابقة أكثر استيراداً للغذاء، وبخاصة السلع الإستراتيجية، من الحبوب والزيوت واللحوم.
وغير مرة، قُرعت الأجراس لخطورة الأوضاع على الصعيد الزراعي والغذائي في العالم العربي، وأن اعتماده على الاستيراد في سلعة إستراتيجية مثل الغذاء يعرض أمنه القومي لمزيد من الخطر، فضلاً عن أنه يُعد أحد المظاهر المهمة للتبعية للخارج.
ففي عامي 2006 و2007م، شهد العالم أزمة غذاء؛ بسبب توجه بعض الدول لإنتاج الوقود الحيوي، الذي يعتمد على السلع الزراعية، بسبب ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، وكان إنتاج الوقود الحيوي من أهم أسباب اشتعال أسعار الغذاء في نفس الفترة.
وكانت هذه الأزمة مناسبة جيدة لاستدعاء التكامل الزراعي والغذائي العربي، لكنه استدعاء لم يتجاوز المنصات الأكاديمية والإعلامية، واتجاه بعض الدول النفطية العربية للاستثمار الزراعي في السودان، ثم ما إن شهدت السوق العالمية اتجاه أسعار السلع الغذائية للانخفاض، حتى خفتت تلك الأصوات المنادية بالتكامل الزراعي والغذائي العربي.
وفضلت كل الدول العربية تحقيق أمنها الغذائي عبر الاستيراد، وليس تنمية إنتاجها المحلي، أو الإنتاج المشترك في الإطار العربي، ومع انعقاد القمة الاقتصادية العربية الأولى بدولة الكويت في يناير 2009م، تجدد ملف الأمن الغذائي العربي، حيث تقدم مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بمشروع لتحقيق الأمن الغذائي العربي بتكلفة تبلغ 36 مليار دولار، ولكن للأسف لم يحظَ هذا المشروع بالدعم الكافي، ولم يخرج كمشروع تتبناه القمة.
ومع التداعيات السلبية لأزمة «كورونا»، تغيرت السياسات من قبل بعض الدول، ومن بينها دولة عربية مثل مصر، باتخاذ قرارات بمنع تصدير بعض السلع الغذائية، وهو ما يطرح ملف التكامل الزراعي والغذائي العربي مرة أخرى، ولكن هذه المرة يجب أن يراعي انتباه واهتمام الجميع؛ الحكومات، ومجتمع الأعمال، والمجتمع الأهلي؛ فنحن أمام أزمة سيناريوهاتها مفتوحة، ولا يعرف لها أمد زمني للخروج منها، والتعافي من آثارها السلبية.
مقدرات العرب بالزراعة والغذاء
التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2019م يضعنا أمام لوحة كاشفة للوضع الزراعي والغذائي في العالم العربي؛ فمساحة الأراضي الزراعية تبلغ 220 مليون هكتار، الأراضي المزروعة بالفعل من هذه المساحة 32.8%، ثم يشكو العرب من أزمة في المنتجات الزراعية والغذائية.
ونتيجة لعدم الاهتمام الكافي بقطاع الزراعة، ينصرف العاملون الزراعيون إلى قطاعات أخرى، رغبة في تحسين دخولهم، وتحقيق نوع من الاستقرار الحياتي، فقد بلغ عدد العاملين بقطاع الزراعة بالعالم العربي عام 2017م نحو 24.1 مليون عامل، بينما كان هذا العدد عام 2010م نحو 27.1 مليون عامل.
وتتدنى مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي للعالم العربي، حيث تصل إلى نحو 4.5%، كما يبلغ نصيب الفرد من الناتج الزراعي 302 دولار فقط لا غير في عام 2018م، وهو معدل يبين إلى أي مدى يعاني قطاع الزراعة في عالمنا العربي من إهمال.
أما عن الميزان التجاري الزراعي، فتشير البيانات عام 2017م إلى وجود عجز بالميزان الزراعي للعالم العربي بنحو 62.4 مليار دولار، بينما تبين الأرقام أن العجز بالميزان التجاري للغذاء بالعالم العربي بلغ 32.6 مليار دولار.
معوقات التكامل الزراعي والغذائي
لا يعد الملف الزراعي والغذائي استثناء من الملف الشامل للتكامل الاقتصادي العربي، حيث توجد مجموعة من المعوقات، تقف حجر عثرة أمام نجاح التكامل الزراعي والغذائي، منها غياب الإرادة السياسية في الدول العربية، منذ عقود، في الوصول لحالة نجاح في ملف التكامل الاقتصادي، وفضلت كل دولة التصرف في قضية الزراعة والغذاء على حدة، ومع ذلك لم يسفر هذا السلوك إلى نتيجة إيجابية على المستوى القُطري.
ولعل الوضع الحالي الذي تعانيه المنطقة العربية يمثل إضافة جديدة في ملف المعوقات لتحقيق التكامل الزراعي والغذائي، حيث تعم حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني غالبية الدول العربية، فالحرب الأهلية ما زالت قائمة في كل من ليبيا، وسورية، واليمن، والعراق، والسودان، والصومال.
وكذلك تعيش منطقة الخليج أزمة حصار قطر لأكثر من عامين؛ وهو ما يعكس حالة الانقسام في منطقة الخليج، وتأثر كل من السعودية والإمارات سلبياً باستمرار الحرب في اليمن، وإن كان أُعلن مؤخراً وقف لإطلاق النار لمدة أسبوعين، تحت إشراف الأمم المتحدة.
يضاف إلى ذلك أن غياب المناخ الديمقراطي في الدول العربية ساعد على وجود فئة مستفيدة من استمرار هذا الوضع، حيث يضمون تجارة رائجة عبر الاستيراد والتوزيع داخل كل قُطر، باعتبار الغذاء سلعة إستراتيجية لا ينخفض الطلب عليها، بل يستمر ويزيد مع زيادة عدد السكان في كل دولة.
وهذه الحالة تكرس لاستمرار التعامل مع الأزمة في إطار قُطري، ولا يشجع على تعاون في ملف الزراعة والغذاء، ولو على مستوى التعاون الثنائي.
هل يحقق «كورونا» المستحيل؟
الممارسات السلبية على صعيد التكامل الاقتصادي العربي تجعل الوصول إلى حالة تكاملية أشبه بالمستحيل، ولكن تعُم فرضية الآن على الساحة الفكرية والسياسية، في ضوء أزمة «كورونا»، تقول: إن العالم بعد أزمة «كورونا» يختلف عن العالم قبلها.
ومن قبيل الحكمة العربية «تفاءلوا بالخير تجدوه»، فلنفترض أن التداعيات السلبية لـ «كورونا»، وما هو منتظر في ضوء أن تجري العديد من الدول مراجعات لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، بعد تجاوز الأزمة، أن توجد هذه الأزمة فرصة ليتوجه العالم العربي لإعادة ترتيب بيته من الداخل، ويتجه نحو التكامل الاقتصادي في مجالاته المختلفة، ومن بينها التكامل في المجال الزراعي والغذائي.
وهذه الفرضية ستكون من الدروس المستفادة من الأزمة، ولكنها تحتاج إلى إزالة المعوقات التي أشرنا إليها من قبل، ليكون المسار الجديد مبنياً على المصلحة المشتركة، مع مراعاة توزيع المخاطر والعوائد، فمن غير المقبول أن تحصل دولة ما على كل شيء، بينما تغيب المصالح عن دولة أخرى بالكلية.
ويتطلب الأمر أن تعيد الدول العربية النظر في محافظها الاستثمارية، لتكون الزراعة وإنتاج الغذاء له أولوية عن أنشطة أخرى، مثل المضاربة في أسواق المال أو العقارات، أو شراء الأندية الرياضية، فثم خطر محدق بالإنسان في المنطقة العربية، إذا لم تتغير سياسات الإنتاج والاستثمار في المنطقة العربية.
فلم يعد الحديث عن وجود استثمارات عربية لدول الفائض بحدود 2.6 تريليون دولار يفيد في شيء، وإمدادات المنطقة من الغذاء معرضة للخطر، وسيكون لكل دولة من الدول المنتجة للغذاء أجندتها، التي تعتمد على توفير احتياجاتها المحلية أولاً، ثم محيطها الإقليمي، أو حسابات أجندتها السياسية.
لقد أظهرت أزمة أسواق النفط العالمية هشاشة الاقتصاد العربي، وبخاصة في ظل مقارنة سعر برميل النفط بأسعار بعض السلع الغذائية، بعد انخفاض أسعار النفط، فسعر سلعة مثل البصل فاق سعر الجوال منها سعر برميل النفط، في أسواق بعض دول الخليج، كما أن الطائرات في رحلات مستمرة، ذهاباً وإياباً، للعمل على توفير احتياجات بعض البلدان من الغذاء.
لقد أهمل العرب التعامل السليم مع العديد من الأزمات خلال الفترة الماضية، ولكن التداعيات السلبية الاقتصادية والاجتماعية لأزمة «كورونا» سيكون لها وقع جديد، يتطلب إدارة عربية مختلفة على مستوى طرق التفكير وإستراتيجيات المواجهة.
فلم تعد القرارات الفردية، أو إهمال مراكز البحوث وأهل الخبرة، تصلح فيما هو آت، فالأصل أن يُستدعى ذوو الخبرات، والجامعات، والعلماء العرب من الخارج، لبناء عالم عربي جديد يتجاوز قضايا مثل الغذاء، لتكون قضية تاريخية، ويعمل على تقوية عناصر القوة في ضوء خريطة القوى الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي.
لقد رضينا بالتبعية في ظل العولمة، على مدار أربعة عقود، ومن غير المقبول أن تظل اهتمامات المنطقة العربية لا تتجاوز التفكير في مجرد توفير غذائها.
_______________
(*) خبير اقتصادي.