في جزيرة النور بمركز الواسطة ببني سويف في صعيد مصر كان مولده ونشأته، وفي القاهرة كانت انطلاقته نحو أفق أكثر رحابة، وفي عواصم متعددة من العالم بعد ذلك كانت رحلته تكتمل أستاذا في العديد من الجامعات الإسلامية، وخبيرا ومؤسسا للعديد من مؤسسات المال الإسلامية، حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى، قبل يومين.
إنه الدكتور حسين حامد حسان.. الخبير الاقتصادي والفقيه الأزهري الذي جمع بين الدراسة الأزهرية وبين التعليم العام.. فتخرج في كلية الشريعة وكلية الحقوق في عام واحد..
حين قص علينا ما قال إنها “طرائف” بدايات تلك الرحلة الطويلة، كانت ابتسامة رضا تعلو وجهه، وكان يلحظ على وجوهنا دهشة مما نسمع يكسوها حزن على حالنا وحال طلبة العلم؛ لأننا باختصار لم نكن نعتبرها طرائف، وإنما اعتبرناها من فرط صعوبة تحققها تقارب “المعجزات”..
فأن تحضر امتحانين في كليتين مختلفتين داخل جامعتين مختلفتين (كلية الشريعة بجامعة الازهر، وكلية الحقوق بجامعة القاهرة) يفصل بين موعديهما “نصف ساعة فقط”، والمسافة بينهما يقطعها سائق السيارة الماهر في أكثر من نصف ساعة!! فبكل تاكيد هذا درب من المستحيل يحتاج تحقيقه إلى معجزة!!
لكن الطالب الأزهري ذا الإرادة الصلبة لم يستسلم، وأوجد الطريقة التي استطاع بها أن يحضر الامتحانين ويتفوق ويحصل على درجة الامتياز.. كل هذا بفضل الله عز وجل ثم بـ “الموتسيكل”!!
فإلى تفاصيل الجزء الأول من الحوار المشوق الذي أجري معه قبل عدة سنوات..
* بداية نود التعرف على البيئة التي نشأ فيها الطفل حسين حامد حسان، ومدى إسهامها في وضع اللبنات الاولى في سماته الشخصية؟
** أود أن أبدأ بمرحلة الطفولة والتعليم، فلم يكتب لي أن أبدأ تعليمي في سن مبكرة، بسبب وفاة والدي وعمري ست سنوات، ولكني بدأت حفظ القرآن القرآن في سن اثني عشر عامًا، وبعد حفظ القرآن التحقت بالأزهر الشريف.
* وأين كان مكان المولد؟
** ولدت في قرية اسمها جزيرة النور مركز الواسطى محافظة بني سويف، وعندما بدأت دراستي في الأزهر، وبعد السنة الأولى الابتدائية أحسست بأن هناك شيئا ينقصني، وهو أن أتعلم اللغة الإنجليزية، والأزهر لم يكن حتى ذلك الحين ضمن برامجه تعلم اللغة الإنجليزية، فلم أقض إجازة الصيف في قريتي، ولكني رجعت فورًا إلى القاهرة، والتحقت بأحد المعاهد العلمية الأهلية، التي كانت تدرس برنامج وزارة المعارف في ذلك الوقت، فبدأت دراستي في هذه المعاهد أيضًا بنفس منهج وزارة المعارف، ثم واصلت تعليمي في الصباح في معهد القاهرة الديني في الأزهر، وبعد الظهر في الفترة المسائية في هذه المعاهد العلمية التي تدرس مناهج وزارة المعارف، ووفقني الله أني حصلت على الثانوية العامة من الأزهر، والتحقت بكلية الشريعة.
* في أي عام كان ذلك؟
** أعتقد أني انتهيت في سنة ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين من دراسة الثانوية الأزهرية، والتحقت بكلية الشريعة، وكذلك أنهيت الشهادة التوجيهية ودخلت بها كلية الحقوق جامعة القاهرة.
* في نفس التوقيت؟
** نعم.. في نفس التوقيت.. فعندما بدأت حياتي، بدأت في نظامين على التوازي، في الصباح التعليم الأزهري، وفي المساء التعليم العام.
* من المؤكد أن هناك صعوبات كثيرة واجهتك في هذه الأثناء.. خاصة أنك من الريف؛ فهل كانت تلك الصعوبات تتعلق بالمال أم بالهمة والإرادة أم بالظروف المحيطة بك؟
** بكل تأكيد هي مرحلة مهمة جدًّا، وكان فيها محطات كثيرة، فلم يكن سهلاً مطلقا هذا الجمع بدون عقبات، أذكر لك مثلا عقبة مهمة كادت تفتك بطموحاتي كلها، لولا عناية الله عز وجل..
هذه العقبة تجلت في أن الامتحانات في كلية الشريعة كانت تأتي في نفس الأوقات التي فيها الامتحانات في كلية الحقوق..
فالامتحانات في كلية الشريعة كانت في الساعة الثامنة والنصف صباحًا، ولمدة ثلاث ساعات، معنى هذا أنها تنتهي في الحادية عشر ونصف، لكن كانت امتحانات كلية الحقوق تبدأ في التاسعة صباحًا ولمدة ثلاث ساعات أيضا يعني تنتهي في الثانية عشرة.. ومعنى هذا أن الوقت المتاح هو نصف ساعة..
* عفوا يا دكتور.. كيف يكون الوقت المتاح نصف ساعة.. هذا يعني أنك يجب أن تجيب على امتحان كلية الشريعة المحدد له ثلاث ساعات في أقل من نصف ساعة؟!!!
** يا سيدي لم تكن المشكلة عندي أبدا في أنني أجيب على امتحان ثلاث ساعات في عشر دقائق، أو خمسة عشرة دقيقة، لكن المشكلة أنك كيف تقطع المسافة من كلية الشريعة بجامعة الأزهر في الدرَّاسة إلى جامعة القاهرة في الجيزة، هذه هي المشكلة الحقيقية..
أضف إلى ذلك أن كل إخواني وأساتذتي نصحوني بأنه يمكن تأجيل أحد الامتحانين؛ إذ يتعذر في نصف ساعة أن أجيب على امتحان مدته ثلاث ساعات.
* المهم أن تذهب إلى هناك أصلاً.. أقصد إلى جامعة القاهرة بالجيزة؟
** نعم هذا هو المهم.. أن أقطع المسافة، وبدأت رحلة التفكير والبحث عن حل.. حيث استعنت بالله عز وجل وقررت ألا أعتذر، وقررت بالتالي أن أجيب عن امتحان الشريعة في ربع ساعة، وتبقى عندي ربع ساعة أخرى أصل فيها إلى كلية الحقوق جامعة القاهرة بالجيزة..
حاولت قدر الإمكان أن أبحث عن سائق تاكسي عنده من الذكاء والدراية بالطريق ما يستطيع أن يوصلني في هذه المدة.
* لكن عفوا مرة أخرى يادكتور.. كيف تستطيع أن تجيب على امتحان مدته ثلاث ساعات في خمس عشرة دقيقة؟!!
** أنا أعتقد أن هذا الأمر ينبغي ألا يكون مستغربا على الطالب الأزهري الذي تعامل مع التراث معاملة واعية.. فهناك متون وهناك شروح لهذه المتون في مجلدات عديدة..
أقصد أن المهارة الحقيقية في القدرة على التعبير عن المعنى المقصود والمطلوب بأقل كلمات ممكنة، فما تقوله وتكتبه في ساعة يمكن أن تكتبه في دقيقتين، ويتضح بالضبط قدرتك على الفهم والاستيعاب، بل بالعكس هذا هو السهل الممتنع.
يعني قد أطلب منك أن تقوم وتلقي كلمة وتعبر عن معانٍ تأخذ فيها نصف ساعة، ويأتي المعلق الذكي ليقول أردت أن تقول كذا وكذا في كلمات بسيطة.. فالشخص الذي يبدي المعلومات الصحيحة في جمل قصيرة معناه أنه اجتهد واستوعب، لأن عملية الاختصار أصعب ما يكون.
* ولذلك قلت المتون وكثرت الشروح؟
** صحيح.. ولذلك أنا أدافع عن المصححين، الأساتذة الذين صححوا أوراقي، فهم قد اعتادوا على أن يروا الورقة بها ما يقرب من ثلاثين صفحة، وبعض الطلاب يحتاج إلى كراسة إجابة أخرى كي يكمل، لكن مع كراسة إجابتي وجدوا أن الامتحان كله مكتوب في صفحة مثلاً، فالأساتذة الذين كانوا يصححون أوراقنا يقرأون قراءة جيدة جدًّا، وعندهم القدرة على فهم مستوى الطالب، وهذا ما طمأنني كثيرا؛ لأنهم لو كانوا ينظرون إلى كثرة الإجابة المكتوبة فإنهم كانوا سيعطونني صفرا لا محالة..
* نعود إلى المشكلة الأساسية.. كيف استطعت أن تذهب في ربع ساعة إلى جامعة القاهرة بالجيزة؟
** كان علي أن أخطط ماذا أصنع، كيف أذهب وأقطع هذه المسافة.. اثنان أو ثلاثة من السائقين أكثرهم مهارة قطعها في خمس وثلاثين دقيقة؛ لأن شارع الأزهر في ذلك الوقت ولا يزال حسب اعتقادي كان شارعا مزدحما لأنه تجاري؛ فكان من الصعب جدًّا أن تقطع وسط القاهرة في وقت أقل من ذلك.
*إذن انتهى الأمل وقررت أن تؤجل امتحان إحدى الكليتين؟
** مطلقا.. لم يخطر هذا على بالي، ولكني فكرت في وسيلة أخرى.. حيث كان لي أحد أصدقائي مهندسا زراعيا، فاستعرت منه “الموتوسيكل” (دراجة بخارية) وحاولت أن أتعلم قيادته، وكان ذلك في غضون أسبوعين باقيين على موعد الامتحان..
وبالفعل في هذه المدة أتقنت قيادة “الموتوسيكل”، وقمت بتجربة المسافة بين الكليتين فوجدتني قد نجحت في أن أقطعها في أقل من ربع ساعة، وسعدت بذلك سعادة غامرة..
وجاء موعد الامتحان وطلبت من صديقي أن يبقى خارج القاعة، لأنني بعد أقل من ربع ساعة سأنهي الامتحان وأخرج مباشرة لأركب “الموتسيكل”، ودخلنا الامتحان وكان عندي خبرة أن أحيانًا قاعة الامتحان يكون فيها المراقب بعيدا عنك وهو يوزع أوراق الأسئلة، وهذا سيضيع مني دقيقة أو دقيقتين أنا في حاجة إليهما!! فذهبت إلى المراقب وطلبت منه أن يقف بجواري ليعطيني الورقة مبكرا حتى لا يضيع مني الوقت.. ووفقني الله لأجيب في اثنتي عشرة دقيقة.
* إجابة ترضى عنها؟
** بفضل الله حصلت على امتياز في هذا العام.. المهم أنني بعد أن انتهيت طلبت من الشيخ المراقب أن يأخذ ورقة إجابتي، فاستنكر وحسبني لا أعرف شيئا في الامتحان.. فأخبرته أني قد انتهيت، فقال: ممنوع أن تخرج قبل مرور نصف ساعة حتى لو انتهيت؛ لأن نظام الامتحانات ألا يترك أحد اللجنة قبل نصف ساعة حتى لا يتسرب الامتحان؛ لأننا نمنح الطلبة المتأخرين نصف ساعة، فلن تستطيع أن تخرج إلا بعد نصف الساعة.!!
وهنا أسقط في يدي، فإما أن أتخلى عن حلمي ويضيع كل هذا الجهد الذي بذلته وإما أن أخرج.. المهم قررت أن أخرج، فأعطيته ورقة الإجابة وانطلقت أجري، والشيخ يجري خلفي في مشهد غريب.. وقابلنا في الطريق عميد الكلية الشيخ المدني يرحمه الله، فرأى طالبًا يجري وشيخا يجري خلفه، ورأيت على وجهه علامات استغراب، وتركت الجميع وأخذت الموتوسيكل.
* وماذا قال الشيخ المدني؟
** لم يقل لي شيئا لأني لم أعط أحدا فرصة لتضييع دقيقة واحدة مني.. لكني علمت من زملائي بعد ذلك أنه سألهم، فقالوا له: إن عندي امتحانا في الساعة التاسعة، وأخبروني أنه سكت، ولم يعلق.. لكن بعد ذلك يسر لي الأمر وجعل الأمور تسير بسلاسة أكثر.
* تكرر هذا في كل الامتحانات؟
** لا.. هذا العام فقط.. لكني أريد هنا أن أؤكد أن الله عز وجل يعين أصحاب النية الصالحة والعزيمة الصادقة..
فقد كنت في هذه المرحلة قد تزوجت وأنا في السنة الأولى من الجامعة، وكان علي أن أسعى في طلب الرزق، وأن أدرس في كلية الشريعة صباحًا وفي كلية الحقوق بعد الظهر، ومن عون الله عز وجل أنه في هذه الأوقات كانت كلية الحقوق من المباني القديمة، وكانت المدرجات قليلة والطلاب كثيرين؛ فقسموا الطلاب إلى “أ” و”ب”، فرقة تدرس في الصباح، وفرقة تدرس في المساء، وبفضل الله عز وجل مكنني الله أن أواظب مساء في الحقوق.
* هذا هو السؤال.. في ظل دراستك بكليتين وفي ظل عملك وإعالتك لأسرة.. هل كنت تواظب على الحضور؟
** بفضل الله ما تخلفت مطلقا لا في كلية الشريعة ولا في كلية الحقوق يومًا واحدًا ولا محاضرة واحدة.. ثم أنا كنت أحتاج إلى حضور المحاضرات؛ لأنني لا أملك وقتا كي أقرأ كل كتب الدراسة؛ لأن عندي اثنتي عشرة مادة في الشريعة، وعندي مواد مثلها في القانون، وكتب القانون حجمها كبير، فإذا لم أستفد من المحاضرة والسماع سيصعب علي أن أقرأ بطريقة دقيقة كل هذه الكتب..