حرك الطفل ريان خالد كوامن ساكنة حول العالم، وقد تابع العالم من شرقه لغربه على وجل منه عملية البحث التي جرت على قدم وساق لإنقاذه وإخراجه من البئر التي تردى فيها.
الدعوات حول العالم
كانت الدعوات حول العالم لا تتخطاها عين الناظر، فلم يعلم بمأساته أحد إلا ودعا له، وتوجه لله تعالى خالصاً من قلبه أن يستخرجه من الجب كما استخرج الكريم عليه السلام سيدنا يوسف.
إلا أن الجهود التي بُذلت طوال الأيام الخمسة لم تفلح في إخراجه من العمق الذي تردى فيه حياً، وانقلبت الدعوات إلى طلب الرحمة.
في فقه الدعاء
انتقل عشرات من الناس من الدعاء بعد صدمتهم بوفاة الطفل إلى السؤال عن جدوى الأدعية التي توجهوا بها، وكان سؤال بعضهم: ألم يكن في الداعين من هو من أهل الصلاح حتى تُجاب دعوته ويخرج الطفل سليماً معافى لينجبر بذاك قلبه أمه وأبيه الكسيرين؟
وهنا لا يعرف كثير من الناس عن عبادة الدعاء إلا أنها معادلة رياضية لها مقدمات لا بد أن تؤدي للنتائج على وفقها.
لكن حقيقة الدعاء أنه عبادة عظيمة، والمرء لا يهلك معه أبداً، والإجابة معه لا شك فيها، لكن أطر الإجابة تتعد مناحيه؛ فقد يكون الخير في التعجيل، وقد يكون في التأخير، وقد لا تكون الإجابة لتخلف دواعيها، أو لكون الدعاء ضعيفاً ليس به قوة على دفع القضاء النازل؛ فالدعاء أحد دوافع القضاء؛ ففي الحديث عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة” (الحاكم وصححه).
إن بعض المتعبدين يضع الأحكام والآداب الشرعة في موضع الاختبار؛ فإما أنه يتهم نفسه بتخلف النتائج بالقصور، أو يتهم الحكم ذاته بعدم الفاعلية ويتشكك فيه، وهنا يقع جزء البلاء؛ فمواعيد الله تعالى لا ينبغي ولا يجوز أن توضع في موضع الاختبار والقياس، فما تحقق منها في نظرنا آمنا به، وما لم يتحقق فاليقين في موعود الله الذي لا ينبغي أن نسأل: كيف هو؟ أو نتوجه إليه بالنفي أو التشكيك في صحته.
قصور التعاطف
كشفت أزمة الطفل رحمه الله عن قصور بالغ في التعاطي معها، بعضهم يراها كاشفة عن عمق الأخوة بين أبناء العروبة، وهو قصور بالغ في فهم رسالة الإسلام؛ فرسالة الإسلام ليست رسالة محلية يتعاطف فيها العربي للعربي، والقومي للقومي، إنها رسالة الإنسانية جمعاء تحمل الرحمة واللين لكل الناس، فلو كان هذا الطفل في أقصى الديار، ووقع في أقسى الظروف؛ لكن الواجب هو التعاطف معه على مستوى الإنسان، حيث الإسلام يعزز نظرة الإنسان لأخيه الإنسان في حدود الرحمة، والتعاون عند الطلب في حدود أحكام الشريعة.
لا أعرف سبباً واحداً يجعلنا نقصر التعاطف على حدود العروبة التي اهتزت من الموصل إلى مراكش، ومن كامبوني إلى ديار بكر، والأصل أن تهتز فينا لكل مصاب أحاطت به الظروف ووقع تحت قسوة ما.
إن نفورنا من الحضارات القائمة -حضارة الغرب أو غيرها من الحضارات الناشئة التي تحمل العنصرية في جنباتها، وتحمل التعصب في أفكارها وتطبيقاتها وتعايشها- لا يضطرنا أبداً لتقديم غير ما عندنا من النافع بعيداً عن تصرفات الآخرين؛ فميدان الحرب هو ميدان النزال والمكيدة، أما ميادين العلم، وميادين التعايش، وميادين الإنسانية ففضاء رحب لكل جميل أتى به الإسلام، ولعل مما سارت به الركبان في سير المحدثين ما يعرف بحديث الأولية، وهو الحديث المشهور: “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” (رواه أبو داود)، والحديث يأمر بتوزيع الرحمة على من في الأرض ما كان السبيل بذلك قائماً.
من هنا، فمن غير الصواب أن يعلنها العرب أنها رحمة خالصة لهم فيما بينهم من دون الناس.
إن نبي الله الكليم قال لمعلمه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الكهف: 74)، فالنفس دائماً في نظر الشريعة لها حرمة، ولها حق، وقال له قبل ذلك: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، فلم يكن في حس الكليم عليه السلام إلا أن ما فعله الخضر يخرج من باب الفساد والظلم، لمن لا جريرة له، وهم أغراب لا يعرفهم نبي الله موسى عليه السلام ولا يعرف إن كانوا على الحق أم على الكفر، ولكن الظلمَ ظلمٌ مهما كان اللاحق به.
ريان الشخص وريان الحالة
كم من ريان في بقاع عدة مات بالعطش والجوع والجفاف! وكم من ريان سقط في هوة جليد، أو تعرض لعاصفة خلعته من يد أمه، أو مات في حفرة البحث عن ملجأ يقيم فيه، أو مات على الحدود بين دولتين، دولة لا تريده، وأخرى ترفض أن تستقبله، أو مات وقذفت به الأمواج إلى ساحلها شاهداً على كون بأكمله تردد في نجدته!
إنها مآسي مئات المشردين حول العالم الذين لا بواكي لهم؛ فدموعهم تجمدت مع زخات قطع الثلج والبرد.
النهضة ومتى تتحقق
إن جهداً فائقاً بذلته فرق الإنقاذ، وكل من استطاع، لكن متى تكون بلادنا لها معداتها الخاصة التي تبهر بها العالم من حولنا، ومتى تخرج الآلات والمعدات من مصانعنا ومؤسساتنا، ربما نحن بحاجة لمزيد من البحث ولمزيد من إطلاق طاقات العلماء والمبتكرين، والإنفاق بسخاء على معامل البحث، حتى إذا تكرر الحدث –نسأل الله السلامة للجميع- نكون في لمح البصر في حيز التدارك.
إن أمتنا أصبحت عالة على الأمم من حولها في كل مناحي الحياة؛ فمتى تستفيق؟ ومتى تدرك أن حياة الكثير من أبنائها تحتاج إلى سواعد أبنائها؟
حفارات لم تُصنع في بلادنا، ومعاول لم تنتجها مصانعنا، وطائرات إنقاذ ومعدات جاءت من عند غيرنا، وفي النهاية عجزنا عجزاً كبيراً عن إنقاذ الروح، واستخراج من في الجب.
أخيراً..
كم نحن عاجزون تجاه المقادير؟ متى ندرك أننا أضعف مما نتخيل، وأصغر مما نعتقد، وأن أرواحنا بين عشية وضحاها بيد من يصرفها كيف يشاء؟ متى يدرك الإنسان مهما تعاظمت قواه، وتفنن عقله أنه ضعيف أمام حدث طارئ يمكن أن يحوله إلى كومة من التراب، أو يحبسه في مغارة لا ينجو منها إلا بقدر من بيده مقادير الخلق عز وجل؟