توقفنا في السطور السابقة بعد عرض الآية الكريمة (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة: 4)، ووعدنا بعرض غيرها ثم العروج إلى أمر آخر وهو بيان المحسوس الملموس، ليستدل من خلاله الإنسان على الغيبي المنقول عقلاً ومنطقاً.
نبين كيف أن المفردة تجاري العصور حسب علومها دون خدش فيها، وأيضاً ما تحمله ضمنياً مستقبلاً، هو أعظم علمياً، وها نحن أيضاً ندلل كحجة كيف يعرض القرآن العظيم والدعوة المحسوس الملموس، ليؤكد للعقل أنه لا بد من التسليم للنقل، كما سلم الصديق رضي الله عنه يوم الإسراء والمعراج، وذلك لرقي عقله وكياسته وفطنته، وقبل هذا وذاك علو ورقي إيمانه، واعتقاده رضي الله عنه وأرضاه.
سبحان الله الخالق والعالم بخلقه حيث يضع المفردة بكتابه، تحمل الشمولية علمياً ومعناً وبلاغة لكل زمان ومكان مهما تطورت العلوم والمعارف، كيف لا وهو كلامه جل جلاله، وهو الخالق لكل الأكوان والخلائق.
الآيات كثيرة التي تظهر فيها المعجزة العلمية، وذكرنا فيما سلف آية، وها نحن نذكر آية أخرى لننتقل بعدها إلى موضوع آخر، موضوع المحسوس الملموس وحجته.
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ {75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة).
يقسم الله تعالى بمواقعها، فأهل الماضي يعلمون أن مواقعها بعيدة جداً، ولعل الله تعالى يقصد بعدها كما يفهمون حينها، وهي جديرة بالانبهار حيث المسافات البعيدة عن الأرض، أو مواقعها التي من خلالها يستدلون على الطريق سفراً في البر والبحر والرحيل؛ أي مواقعها الثابتة، ولا شك هو قسم عظيم حسب ما يرون، وما علموا حينها عن جريان النجوم، وأيضاً سقوطها وغروبها وانفجارها ونهاياتها، ومع ذلك الظاهر والضمني من القسم أنكم لا تعلمون كل شيء بالتفاصيل العظيمة، وظاهر ذلك بقوله تعالى: (لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ولكن لا تعلمون، وبالفعل جاء العلم الحديث ليبين لنا في هذا العصر أن الأمر أعظم مما فهمه وأدركه الأولون، وأن ما أدركوه صحيح ولا يختلف مع الحديث، والحديث لا يخدش معلوماتهم السابقة.
إن ما ترونه هو ضوء مكان النجوم التي انعدمت منذ ملايين أو مليارات من السنين، ولكن للتو يصل إليكم ضوؤها من موقعها الذي أعدمت فيه! ولبعد المسافة حيث تبعد ملايين السنوات الضوئية للتو تصلكم، ومثل هذه قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) (البقرة: 189)، هي حقيقة مواقيت للناس ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهي نتيجة حركة اكتشفها العلم الحديث، وهي متفقة تماماً مع فهم السابقين بكل مستوياتهم العلمية للآية وحركة المجموعة الشمسية.
وكذلك قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون)، هم في تلك العصور يفهمون الأصل النطفة، وإن اختلف العلماء بأقوالهم حول تفسير الآية، إلا أنهم لا ينكرون ما بعد النطفة بما أنها هي الأصل فخاطبهم بما يعلمون، والأخرى تأتي حقيقتها مستقبلاً، ولا تناقض بين الأفهام رغم البون الكبير بين الأزمان علمياً ومعرفياً، سبحانك ربي ما أعظمك!
أما بالنسبة للمحسوس الملموس فنتطرق إلى سورة “الإسراء”، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) (الإسراء: 1)، ذكر الله الإسراء ليلاً، وهي حركة غير عادية، وفوق مستوى المحسوس الملموس حيث قطع المسافة بزمن خيالي، إلا أن لها تبعات محسوسة ملموسة تدلل وتؤكد الغيبي المنقول، الذي هو فوق مستوى العقول، مثل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق بين مكة وبيت المقدس والمسجد الأقصى، التي تدلل على ما هو أعظم، وهو الإعراج من المسجد الأقصى إلى السماء، وهذه فهمها فهماً دقيقاً عميقاً كيساً سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، حينما أرادوا أن يسخروا من محمد صلى الله عليه وسلم، واستيأسوا من الطعن فيه بعد أن وصف لهم ما لا يستطيعون نكرانه محسوساً ملموساً مثل معالم الطريق التي يعلمونها جيداً، وبيت المقدس الذي تعلمه قريش بدقة من خلال تجارتها ذهاباً وإياباً، والمسجد الأقصى والقوافل القادمة، فلجؤوا إلى الاستهزاء بعد أن فقدوا الحجة عقلاً ومنطقاً حسياً في نفي المنقول، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه، مؤصلاً أن المنقول إيماناً، وبعد الإيمان لا يرد منه شيئاً، وهي مرحلة أرقى وأعلى من الشعور بالمحسوس الملموس فقال: “والله لئن كان قال هذا الكلام لقد صدق، فوالله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض فأصدقه”، نعم هذه النتيجة المنطقية إيمانياً.
وأيضا قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ {3}) (الكوثر).
النحر منذ 1400 سنة لا يتوقف حتى تقوم الساعة، وكذلك وصف عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وهو العاص بن وائل السهمي، استمرار النحر هو استمرار ذله وهو الأبتر، وهما أيضاً يدللان عقلاً على الكوثر، ويبقى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الأرقى في الشهادتين والأذان إلى قيام الساعة، وذكر الأبتر إلى قيام الساعة؛ وعقلاً ومنطقاً ونقلاً، الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى قيام الساعة، والعاص هو الأبتر إلى ما لا نهاية، كما أمر الله تعالى في كتابه، والكوثر كذلك دائم وموجود منطقاً وعقلاً، وقبل ذلك نقلاً ووجوده اعتقاداً كما النحر اليوم، وكما وجود الأبتر، وكما وجود النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته العظيمة، وبما جاء به صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة بصفته آخر الرسل والأنبياء.