شغلت قضية المرأة الغرب والشرق، واحتلت مساحة ضخمة من الحياة الفكرية في العالمين العربي والإسلامي.
لقد خصص الغرب يوم الثامن من مارس من كل عام يوماً عالمياً للمرأة، يستذكر فيه حقوقها ويقف على مدى ما وصلت إليه في التعليم والعمل والتمكين من الوظائف العامة، ويطالب الشرق بمزيد من الحقوق ومزيد من التمكين للمرأة.
ينظر بعض المتدينين بريبة إلى كل حديث عن حقوق المرأة، ويرون فيه محاولة لفتح طوفان من الفتن يجتاح الأخلاق ويهدم القيم ويروج للعري والفساد.
الرؤية الرشيدة
في وسط هذه الأمواج المتصارعة، كان هناك ربان حمل على عاتقه تقديم الرؤية الإسلامية لقضايا المرأة، وقد استخلص رؤيته هذه من الكتاب والسُّنة وحقائق الإسلام ومقاصد الشرع، عوتب وهوجم ورمي بأبشع الأوصاف، لكن الاتهامات لم تزده إلا ثباتاً على موقفه الذي رأى أنه الأقرب إلى الإسلام وهداياته.
خص، رحمه الله تعالى، المرأة بعدة مؤلفات، منها “المرأة في الإسلام”، و”قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة”، إلى غير ذلك من بحوث داخل بقية كتبه ومقالاته وأحاديثه الإذاعية والتلفزيونية والندوات.
حذر البعض من كتاباته وأفكاره، ثم لما تغيرت الرياح حاولوا أن يلحقوا به فما استطاعوا.
الغزالي حمل على عاتقه تقديم رؤيته لقضايا المرأة التي استخلصها من الكتاب والسُّنة وحقائق الإسلام ومقاصد الشرع
في “اليوم العالمي للمرأة”، نستذكر معاً رؤية الشيخ محمد الغزالي، عليه من الله الرحمة والرضوان، للمرأة لا لنحيي ذكراه فهو الآن بين يدي رب كريم يجزي بالخير ويعفو عن الزلل، بل لنستلهم من تلك الرؤية الرشيدة ما نستفيد به في عصرنا الحاضر، ولنرفع رؤوسنا وأصواتنا بأن عندنا ما نقدمه للعالم في مجال حقوق المرأة وحريتها وغير ذلك من قضايا مطروحة.
يرى الغزالي، رحمه الله، أن مكانة المرأة مستمدة من توجيهات القرآن الكريم ومن الممارسة النبوية فيقول: “كلما رجعت إلى السيرة النبوية ازددت معرفة بما كان للمرأة من مكانة، وبما كفله الإسلام لها من حقوق، لقد كانت لها شخصية مقدورة وأثر يحسب”.
ويقدم مثلاً على ذلك يظهر فيه مدى ما وصلت له المرأة من مكانة منذ اللحظات الأولى للدعوة إلى الإسلام، ويظهر من هذا المثال مدى ما يملكه الشيخ رحمه الله من بصيرة في التعامل مع النصوص الشرعية، فيقول: “يقول المحدثون: لما نزل قول الله لنبيه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ونادى: “يا بني عبدالمطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت رسول الله، اشتريا أنفسكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما”، إن نداء المرأة بهذا الصوت الجهير شيء مستنكر في عصرنا الأخير، كنا نعد اسمها كشخصها عورة لا يجوز أن يعرف ونقول: ما للمرأة وهذه الشؤون؟ يكفي أن يحضر رجل من أسرتها ليبلغها، أما أن تنادى على رؤوس الأشهاد فذلك عيب! لكن المرأة في صدر الإسلام عرفت قدرها، ولما سمعت منادياً يدعو إلى الإيمان سارعت إلى تلبيته”.
إن للمرأة قدراً عظيماً في الإسلام تستحق معه أن تنبه بالذات وينادى عليها بالاسم في أول إعلان عن مهمة هذا الدين في العالم وواجب حملته تجاهه.
ويضع يده على أحد أسباب المواقف الحادة التي اتخذها أنصار المرأة من الدين فيقول: “إن تقاليد المسلمين في معاملة النساء لا تستند إلى كتاب أو سُنة.. وقد نشأ عن ذلك أن المثقفات في العصر الحديث تجهمن للتراث الديني كله يحسبنه السبب في تجهيل المرأة، وهضم مكانتها، وإنكار حقوقها المادية والأدبية التي قررتها الفطرة وأكدها الوحي وبرزت أيام حضارتنا واستخفت مع انتشار القصور وغلبة الأهواء”، فما نراه من إساءات للمرأة وانتقاص من قدرها وحقها مرجعه إلى غلبة التقاليد الفاسدة على تعاليم الشرع الحنيف وإلصاق هذه المظالم زوراً وبهتاناً بالإسلام.
وفي أثناء حديثه عن القوامة كأحد المواضع التي أسيء فيها استخدام الحق وجردت القوامة من كثير من معانيها السامية لتحول إلى سوط يجلد ظهر المرأة ويوقفها عن أداء رسالتها في الكون التي طلبها منها رب العزة فيقول: “أساس التعامل -بين الزوجين- الخلق الزاكي، والحب السيَّال، والإيثار الذي يرجح الفضل على العدل، والترفع عن ملاحظة الصغائر! ومن أدب العرب في بناء الأخلاق وتقويم السلوك قول الشاعر:
ولا خير في حسن الجسوم ونبلها إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
ولم أر كالمعروف، أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل
ثقافة رشيدة
ويرى أن الثقافة الرشيدة أكبر دعائم البيت الذي يريد الإسلام قيامه بحيث يتشارك أفراده في أداء مهمة الإنسان، وهي عبادة الله وعمارة الكون فيقول: “إن الثقافة الغزيرة تعين الرجل والمرأة كليهما على ضبط الحقائق وإحسان الحكم على الأمور والإشراف على تربية الأجيال الناشئة تربية مثمرة مجدية”، ويذكر ما يمكن أن نعده أثراً للثقافة التي تحيي العقل والقلب وتدعم الجرأة في الحق وتكسب اللسان بياناً يتمكن به من التعبير عما يريد بألطف عبارة وأنظف أسلوب، روى أحمد عن أنس بن مالك أن أبا طلحة -قبل أن يسلم- خطب أم سليم وهي مسلمة، فقالت له المرأة الراشدة: يا أبا طلحة! ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى! قالت: أفلا تستحي تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقاً غير الإسلام! قال لها: دعيني حتى أنظر في أمري.. فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالت لابنها أنس -راوي الحديث- يا أنس، زوّج أبا طلحة! فزوّجه من أمه! أي مجتمع هذا؟ إنني بقدر ما أعجب من ذكاء المرأة وإخلاصها لدينها أعجب لسلامة الفطرة وانتفاء الريبة وسهولة الحلال وسرعة إقراره”.
ما نراه من إساءات للمرأة وانتقاص من قدرها وحقها مرجعه إلى غلبة التقاليد الفاسدة على تعاليم الشرع الحنيف
بأي قدرة استطاعت هذه المرأة أن تقنع الرجل؟ وبأي جرأة استطاعت أن تعبر عن حقها في الزواج؟ وبأي أدب تمت كل هذه العمليات العقلية والإنسانية والاجتماعية وبمنتهى البساطة كشفت هذه الكلمات القليلة مدى ما تمتعت به المرأة من حقوق وحرية وأدب؟!
ثم يشخص داء الأمة أدق تشخيص فيقول: “إن تقهقر الأمة الإسلامية في الأعصار الأخيرة يعود إلى العجز الشائن في فهم موقف الإسلام الصحيح من المرأة، وهذا العجز من وراء انتصار المدنية الحديثة وانتشار عُجرها وبُجرها في آفاق عريضة، والعلاج يقدمه فقهاء أذكياء منصفون، لا متفيهقون متعالمون”.
ما من مسلم يتابع حركة التاريخ ووقائع الحياة إلا ويلمس ما أصاب هذه الأمة من انتكاسة كبيرة يفسرها الشيخ رحمه الله بسوء فهم موقف الإسلام من المرأة، ويرى أن العلاج بيد أولئك الذين اطلعوا على نصوص الوحيين، وأدركوا مقاصد الشريعة ومكانة الإنسان في هذا الدين رجلاً كان أو امرأة، على أن يتحلوا بالإدراك للنصوص الشرعية وكيفية التعامل معها وبالإنصاف للنفس والغير، أما أن يتقدم للميدان كل صاحب قلم أو لسان لا يحمل أدنى معرفة بالدين ولا بالتراث ثم يوجه الآيات على ما يهوى وينكر الأحاديث التي لا يفهمها فمثل هذا الصنف سيزيد من المظالم التي ستتعرض لها المرأة أولاً حين يضعها في غير موضعها ظناً منه أنه يرفعها، وحين يستعدي من لا يرون للمرأة مكاناً إلا البيت أو القبر.
يرى الشيخ رحمه الله أن “وظيفة البيت الأولى هي الحفاظ على الإيمان والعبادة والخلق الشريف والمسلك القويم والتقاليد الراشدة والمثل العليا، والأبوان شريكان في أداء هذه الوظيفة، ونصيب الأم منها ضخم ثقيل”، وعلى قدر تحملها لهذه المهمة الجليلة التي قام بها الأنبياء والصالحون من بعدهم ترتقي المجتمعات وتتقدم الإنسانية.
من خلال هذه النصوص القليلة، نرى أن الشيخ، رحمه الله، يستند في فهمه لقضايا المرأة إلى النصوص الشرعية.
كان الشيخ، رحمه الله، مناصراً للحق أينما كان، تجده يقف بثبات وقوة عندما يستضعف أصحاب الحق ويكثر الجناة.
إذا تذكر العالم في التاسع من مارس “اليوم العالمي لحقوق المرأة”، تذكر المسلمون رجالاً ونساء أحد أهم المدافعين عن هذه الحقوق في وقت كان الحديث عنها رجساً من عمل الشيطان وسلوكاً لسبيل الغرب، رحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه على الشيخ الجليل محمد الغزالي، وعلى أهل العلم أحياء وأمواتاً.