كان رسول الله يمثل الشخصية السوية التي جمعت مكارم الأخلاق، والقدوة الذي تقيّم به السلوكيات لكل من يريد الارتقاء بأخلاقه، فكان–صلى الله عليه وسلم- النموذج المثالي للخلق القويم في تعامله مع أصحابه رغم اختلاف بعضهم في طباعه وسلوكياته مع السلوك القويم والأخلاق الفاضلة؛ ولذا امتدحه الله سبحانه وتعالي بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: ١٢٨)، وقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).
وقد بادر أصحابه إلى التعبير عن جمال خلقه–صلى الله عليه وسلم- ، ومن ذلك قول أنس بن مالك: ” كان رسول الله–صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس”، ويقول النووي: ” وفيه بيان ما أكرمه الله من جميل الصفات، وأن هذه صفات الكمال”([1]) ويقول عبد الله بن عمر: ” لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: “إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا”([2]).
وقد جذب حبُّ الصحابة لرسول الله–صلى الله عليه وسلم- واقتدائهم به عروة بن مسعود، وهو يومئذ من المشركين الذين أرسلتهم قريش عام الحديبية سنة 6ه ليقنع الرسول بعدم دخول مكة، فعبر عن ذلك -والفضل ما شهدت به الأعداء- عندما رجع إلى قريش: ” فقال: أي ُّ قوم والله… لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي.. والله إنْ رأيت ملكًا قطُّ يُعظِّمه أصحابُه ما يُعظِّم أصحابُ محمد –صلى الله عليه وسلم- .. وإذا أمرهم ابتدوا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له…” ([3])
وقد اتضح ذلك من خلال تعامله مع السلوكيات المختلفة للصحابة؛ فأرشدهم بحسن خلقه إلى السلوك القويم دون إيذاء لمشاعرهم، وتحمل سوء سلوك بعضهم بحلمه وجميل عفوه وتسامحه وكرمه، وقد اتبع الرسول –صلى الله عليه وسلم- أساليب متعددة في الإرشاد السلوكي للصحابة، ومنها:
1- التمييز: قد يعتاد الإنسان ممارسة سلوكياته في جميع الأوقات والأماكن دون تمييز؛ فالسلوك قد يقبل في موضع ولا يقبل في موضع آخر، وقد حفلت السنة النبوية بكثير من المواقف التي تدل على ذلك، ومنها: لما تكلم الصحابي معاوية بن الحكَم السُّلمي في الصلاة أرشده رسول الله أنه ليس مباحا في الصلاة كسائر الأوقات، وأفهمه بأسلوب جعل الرجل يعبر عن انطباعه بهذه الكلمات، فقال: “فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، والله ما ضرَبني ولا كهَرني (أى: زجرنى) ولا سبَّني، فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن.” ويقول النووي: “وهذا من عظيم الخُلُق الذى شهد الله به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه وتقريب الصواب إلى فهمه.”([4])
2- التلقين: يحتاج الإنسان أحيانًا إلى مساعدة بالتوضيح أو الشرح؛ ليستطيع تأدية عمل من الأعمال، وهذه المساعدة قد تكون لفظية بهدف التوجيه والإرشاد، والمواقف النبوية في هذا كثيرة، ومنها على سبيل المثال: عندما دخل رجل المسجد فصلى؛ فقال: ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ثلاثًا حتى قال الرجل: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره؛ فعلِّمني؛ فعلَّمه كيفية أداء الصلاة.”([5])
3– التنفير: إن الصراع بين الإنسان وتحقيق شهواته أمر جبلت عليه طبيعة الإنسان، ولا بد من التوازن والاعتدال دون إسراف أو إباحية، فليس في الإسلام رهبانية تقاوم وتكبح شهوة الإنسان، وليس فيه كذلك إباحية مطلقة، فعندما جاء أحد الشباب يطلب من رسول الله أن يأذن له في الزنا، فأقبل عليه القوم يزجرونه ظنًا منهم أن ذلك أنجع الوسائل في منعه،لكن رسول الله الرحمة المهداة الذى يدرك رغبات النفس وكيفية ضبطها دعاه وقربه من مجلسه دون جرح لشعوره أو تحقيرًا لشخصه، وشرع في إقناعه بفحشه وقبحه بالحوار الهادئ والمناقشة، ومنه قوله: أترضاه لأمك، لابنتك، لأختك، لعمتك، لخالتك، والشاب يقول في كل مرة: لا والله .. جعلني فداءك؛ فيقول له الرسول أيضًا في كل مرة: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ولا لبناتهم…إلخ، ثم وضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصن فرجه” فلم يكن يلتفت إلى شيء.([6])
4-التعميم: عندما يرتكب الإنسان خطأ ما يمكن أن يتكرر من الآخرين؛ فإنه يلجأ إلى استخدام أسلوب التعميم لبيان السلوك الخاطئ وعدم إحراج فاعله، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يشير إلى التعميم، فتقول السيدة عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟… ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون.”([7])
5-الإقصاء: الإقصاء إجراء عقابي عن طريق العزلة الاجتماعية في نفس البيئة التي يعيش فيها، وعدم الدخول معه في نقاش، ومعاقبة بفقد المميزات التي كان يتمتع بها لفترة زمنية محددة يمنع فيها من المشاركة في الأعمال المختلفة، ومن أمثلة استخدام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الإقصاء في تقويم السلوك ما تضمنته قصة تخلف كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية عن غزوة تبوك، ومعاقبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لهم بالإقصاء، وأمر المسلمين باعتزالهم ولا يكلمهم أحد حتي ضاقت عليهم الأرض بما رحبت مدة خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم([8]).
6- التشجيع: إن تشجيع السلوك الإيجابي أهم وسيلة يُنصح به في الإثابة والمدح بكمة طيبة أو ابتسامة عند المقابلة أو الثناء عليه أو منحه هدية أو الدعاء له أو الاهتمام بأحواله مما يعزز هذا السلوك ويدعمه ويقوى السلوكيات المماثلة له، وقد امتدح رسول الله–صلى الله عليه وسلم- صحابته مما كان له أبلغ الأثر في نفوسهم ومثار فخرهم واعتزازهم، ومن ذلك: مدحه لأبي بكر وعمر بن الخطاب([9])، وقوله في عبد الله بن عمر: “نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل” ([10])؛ فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا. ولقب خالد بن الوليد بأنه “سيف من سيوف الله ” ([11]) فكان خالد بطلًا من أبطال الإسلام منتصرًا في جميع معاركه. وامتدح جمال تلاوته “أبو موسى الأشعري” للقرآن الكريم بقوله: “لقد أُوتِيتَ مِزْمارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ”([12])، وقوله في الأشج عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة”.([13]) وغير ذلك كثر.
——
- باحث في التاريخ والحضارة والإسلامية.
([1]) شرح النووي على مسلم، كتاب الفضائل، باب: في شجاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- وتقدمه للحرب، ج15ص97، رقم2307.
([2]) فتح الباري، كتاب: المناقب، باب صفة النبي –صلى الله عليه وسلم- ،ج6ص664، حديث رقم 3366.
([3])السابق، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة،ج5 ص388، حديث رقم 2583 .
([4]) شرح النووي على مسلم، كتاب: الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ج1 ص382، حديث رقم 877.
([5]) فتح البارى، كتاب صفة الصلاة،ج 2ص323، حديث رقم 760.
([6])مسند أحمد، مسند الأنصار، حديث أبى اُمامة الباهلى،ج 55ص256-257،حديث رقم 21722، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى،ج 1ص370.
([7])فتح البارى، كتاب: المناقب، باب: صفة النبى –صلى الله عليه وسلم- ،ج 6ص664، رقم 3367.
([8])السابق، كتاب المغازي – باب حديث كعب بن مالك،ج4ص1604-1066، حديث رقم 4156.
([9])السابق، كتاب فضائل الصحابة،ج 7ص 15، 49حديث رقم 3454، 3476.
([10])السابق، كتاب: التهجد، باب: فضل قيام الليل،ج 3ص8-9،حديث رقم 1070.
([11])شرح النووي على مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب خالد بن الوليد، ج 7ص126 حديث رقم 3547.
([12]) فتح الباري، كتاب: فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة،ج8ص710، حديث رقم 4761 .
([13]) السابق، كِتَابُ: الإِيمَان، بَابُ: الْأَمْر بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَرَائِعِ الدِّينِ، وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، حديث رقم 50.