يموت الإنسان وتبقى آثاره شهادة له أو عليه، قد مات ناس وأهل العلم أحياء؛ أحياء بما تركوا من بصمات تفتح العقول والقلوب على نوافذ من النور والهداية والخير والحق والجمال، أحياء بما قدموا من معارف تقرب الناس من الله وتدل على صلاحية الإسلام وقدرته على إصلاح الواقع مهما كان مريرًا.
ذهب الشيخ القرضاوي إلى ربه بعد رحلة حافلة، لكن آثاره تدل عليه، ومساهماته الفكرية في شتى فروع المعرفة الإسلامية ومعالجته للقضايا المعاصرة تدل على بقائه بيننا بما خلف من تركة علمية، وحاجتنا إلى دراسة هذه التركة بعين منصفة وقلب بصير ورغبة في الانتفاع بما فيها من خير، ومناقشة ما فيها من قصور.
وبمناسبة انعقاد مؤتمر المناخ كانت البيئة حاضرة في فكر الشيخ القرضاوي ومؤلفاته، ومما وجدته في كتب الشيخ يتعلق بالبيئة كتاب بعنوان “رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية”، وصفحات في كتابه “السُّنة مصدر للمعرفة والحضارة”، وبحث شارك فيه في أحد المؤتمرات المتعلقة بالبيئة، ولعل له مساهمات أخرى لم أقف عليها، ونتطلع إلى ظهور أعماله الكاملة لنتمكن من بلورة رؤيته رحمه الله في قضية البيئة وغيرها من القضايا القديمة والمعاصرة.
والعلاقة بين البيئة والمناخ علاقة وثيقة، فكل منهما يؤثر في الآخر؛ لذا أحببت أن أنقل رؤية الشيخ رحمه الله للبيئة وقضاياها من منظور يعتمد على ثقافته الإسلامية ورؤيته الشاملة لقضايا الدين والحياة.
مفهوم الرعاية أشمل من مصطلح الحماية
يختار، رحمه الله، مصطلح رعاية البيئة بديلاً عن حماية البيئة؛ لأن الرعاية تقتضي تقديم ما يصلح البيئة وينميها من جهة، ومن جهة أخرى حمايتها من كل ما يعود عليها بالضرر.
توافق مكونات البيئة مدعاة للتوافق بين البشر
وتقوم نظرته، رحمه الله، على أساس أن البيئة مهيأة لخدمة الإنسان ومشتملة على حاجاته للطعام والسكن والملبس والدواء وما يستخدمه في الترفيه عن نفسه، وإذا كانت مكونات البيئة متوافقة بعضها مع بعض ليس فيها تنافر ولا تضاد، كل يقوم بمهمته التي خلقه الله تعالى لأجلها، وإذا كان الكون كله قائماً على الانسجام بين مكوناته، فلماذا لا ينسجم بنو آدم بعضهم مع بعض ومع الكون من حولهم؟!
رعاية البيئة من ألوان العبادات
يتسع مفهوم العبادة ليشمل كل حركة فيه طاعة لله سبحانه، وإخلاص العمل، ونفع للناس، وعلى ذلك فكل إصلاح وتعمير في البيئة ومحافظة على مكوناتها من التلف والفساد يعد من العبادة، كما أن بين المسلم وبيئته علاقة محبة ووداد، فكلما ذكر الله تعالى تذكر أن البيئة من حوله تسبح؛ {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وكلما سجد تذكر أن الشمس والقمر يسجدان، وكلما رأى جبل تذكر الحب المتبادل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبل أُحد حين قال: “أُحد جبل يحبنا ونحبه”.
ينظر المسلم إلى بيئته على أنها أحد الدلائل على وجود الله تعالى وقدرته وعظمته، لذلك تجده دائم النظر والتأمل استجابة لما جاء في كتاب الله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وكلما اتسعت دائرة النظر والاعتبار وتكررت ازداد الإيمان واتسعت الأرزاق، فإذا كانت النظرة المادية للكون تراه قاصرًا عن الوفاء باحتياجات الإنسان المعاشية؛ فإن النظرة الإسلامية للكون تراه كافياً لكل مخلوق يعيش على وجه الأرض إنسانًا أو غيره من الكائنات، والمشكلة ليست في كفاية الأرزاق المقدرة سلفًا، فإن الله تعالى قال {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]، بل المشكلة في عدوان بني آدم بعضهم على بعض، واحتجاز هذه الأرزاق لفئة من بني آدم تمتلك القوة والنفوذ وحرمان الضعاف من نصيبهم في خيرات الأرض، وعلى الإنسان أن يسعى حثيثاً لاكتشاف هذه الأرزاق والانتفاع من تسخير الكون للإنسان في الابتغاء من فضل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 14].
الجانب الجمالي من البيئة
زين الله تعالى السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً، فإلى جوار ما تحققه النعم من منافع مادية للإنسان تحقق أيضاً جانباً روحياً؛ إذ تستريح النفس وتبتهج بما في الكون من جمال؛ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق].
وهذه البهجة التي تأتي من النظر للكون تعود بالمسلم إلى الخالق سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه، فيزداد المؤمن إيماناً بربه ويتحلى بالجمال في لبسه وكلامه وسائر تصرفاته.
علاقة الفقه برعاية البيئة
تعرض، رحمه الله تعالى، لعلاقة الفقه برعاية البيئة، ومن ذلك القواعد الفقهية التي تضبط حركة المسلم وفق الشريعة، وكذلك الأحكام الفرعية، فمن ذلك تحريم الإسراف في الطهارة، فإذا كان الإسراف في الماء المستخدم في الطهارة حراماً، فما بالنا بالسفه في استخدام الماء للممارسة رياضة لا يقوم بها إلا عدد محدود من الأثرياء؟! وما بالنا بالهدر الناتج عن عدم صيانة صنابير المياه؟! ويتعلق الفقه برعاية البيئة من ناحية أخرى نلحظها في حث الفقهاء على إحياء الموات، والنهي عن الإضرار بالبيئة من المصانع والأفراد بالقاعدة الفقهية التي تتناول العديد من المجالات: “لا ضرر ولا ضرار”، وما يتفرع عنها من قواعد وينتج عنها من أحكام.
ولرعاية البيئة تعلق كذلك بأصول الفقه، هذه العلاقة تظهر إذا استعرضنا الكليات الخمس، ويأتي في أولها حفظ الدين، فكل عدوان على البيئة يخالف الإحسان الذي أمر الله به المسلم، وينافي مهمة الإنسان في هذا الكون، وهي عبادة الله وعمارة الأرض وتحقيق الاستخلاف.