«العائلة تتبخر».. تحذيرات تتردد في غالبية المجتمعات، وهي نابعة من أزمة الإنسان المعاصر الذي سعت الحداثة لتفكيكه وتجزئته وتفتيته، ورؤيته من منظور مادي أحادي يتأسس على المنفعة واللذة؛ فمع عصر التنوير، أمسكت الحداثة بالعقل الأوروبي، منحية أي دور للدين في الحياة أو الإصلاح، وتزامن ذلك مع هيمنة الدولة القومية على حركة المجتمع، فاتسعت العلمنة، وظهر ما يمكن تسميته بـ«العلمنة الصامتة» كتعبير عن أولئك الذين يتركون الدين بلا ضجيج، فتقلص حضور الدين في المجال الاجتماعي وفي أهم قضاياه المتعلقة بالعفة والزواج والأسرة.
كانت الأسرة من أهم ضحايا الحداثة، فوُجهت إليها حرب شرسة، باعتبارها المحضن الأول والأهم للتنشئة، ونظراً لأن الدين يؤدي دوراً مهما داخل أطرها، سعت الحداثة لتجفيف منابعه، فعمقت الفردانية، وغيرت مفهوم الزواج، وسعت لتقويض مفهوم الأمومة والأبوة.
لم تعد شعائر الدين حاضرة في غالبية الأسر الحديثة، فأصبح الزواج وفق قانون الدولة، ولم تعد تعاليم الدين معيارية في الزواج.
وكانت مغادرة الدين كارثية على الأسرة؛ فهي الحيز التي يشاهد فيه الطفل ممارسة الشعائر، وهو ما يمنحه الهوية والمعيارية والرؤية للنفس والكون، ليس وفق الاستهلاك والاستمتاع، لكن من خلال الاندهاش والإجلال وإدراك روعة الوجود، وهذا ما أكدته البروفيسورة «ليزا ميلر» في كتابها «الطفل الروحي» (The Spiritual Child)، كاشفة عن كارثية غياب الدين في التنشئة داخل الأسرة، ومؤكدة أنه لا شيء يحمي الطفل مثل تلك التعاليم الروحية التي يتلقاها في أسرته.
واستندت إلى إحصاءات، منها: أن الأطفال الذين يتلقون تربية روحية في تنشئتهم في الأسرة هم أقل احتمالاً بنسبة 60% من التعرض للاكتئاب أثناء المراهقة، وأقل بنفس النسبة في تعاطي المخدرات، وأقل بنسبة 80% من ممارسة الجنس غير المشروع، وأن الأطفال الذين لا يتلقون تربية روحية هم أكثر إحساساً بعدم القيمة في الحياة، وهذا ما يجعلهم أكثر هشاشة أمام أي أزمة أو خسارة، أما الأطفال الذين ينشؤون على قيم روحية فيلازمهم شعور دائم بأن هناك ذاتاً مقدسة أعلى، أكبر بكثير من انتصارهم اليوم أو هزيمتهم، وهذا ما يمنحهم صلابة في مواجهة الشدائد وتقلبات الحياة، لكن الأخطر الذي نبهت إليه هو أن القدرات الروحية إذا لم يتم غرسها داخل الأسرة فإنها تذبل.
وقد حذرت دراسة نشرها مركز «بيو» للأبحاث عام 2013م من تراجع الدين داخل الأسرة في التنشئة، وأن ذلك يشكل تأثيراً سلبياً على الأمة الأمريكية، خاصة مع تنامي «اللادينيين»، وتشير إحصاءات الخمسينيات من القرن الماضي أن 4% من الأطفال الأمريكيين ولدوا في أسر غير دينية، مقارنة بـأكثر من 30%، في الوقت الراهن، وفي دراسة أخرى للمركز عام 2016م أكدت أن المعتقدات والسلوك الديني يؤديان دوراً مهماً في تشكيل العلاقات الأسرية ورفاهية أفرادها، وأن التدين له تأثير كبير على الجودة والرضا عن الحياة بين الآباء والمراهقين.
الفردانية مقابل الأسرة
مع الحداثة ظهرت الفردانية(1) مُعلية من شأن الفرد وحقوقه على الجماعة، ليتحول البيت معها إلى مكان للنوم والطعام، دون رابط جامع بينهم بين أفرادها، فأصبحت الأسرة ساحة للصراع، ومع الفردانية تقوض الإحساس بالأمان، وعرف التفكك طريقه إلى الأسرة، وسعت الدولة الحديثة إلى أن توجد بتدخلها حلولاً لهذا التفكك، لكنه لم يكن حلاً ناجزاً أو مطمئناً، ولعل هذا ما جعل البعض يستدعي ما كتبه المؤرخ الإنجليزي «إدوارد جيبون» قبل ثلاثة قرون في كتابه «تاريخ ضعف وسقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي أرجع فيه السقوط إلى تفكك الأسر، وأكد أنه لا هروب من درس التاريخ، فعندما يبدأ هيكل الأسرة في التصدع؛ فإن بنية الأمة نفسها تأخذ في الانهيار.
ونتج عن الفردانية ظواهر ساهمت في تصدع الأسرة، منها:
– تراجع الزواج:
وصف البعض القرن الحادي والعشرين بأنه «قرن اللازواج»، وأن المتزوجين سيصيرون فيه أقلية، ومع تراجع فكرة الزواج انتشرت الأشكال الشاذة في العلاقات الجنسية؛ ففي الهند مثلاً أكد إحصاء حكومي عام 2019م ارتفاع نسبة الشباب غير المتزوجين ليصل إلى 23%، وفي دراسة للباحثين كلود مارتن، وإيرين تيري، عن الزواج والمعايشة في فرنسا، أكدت تغير مفهوم الزواج، وذكرت أن أكثر من 2.5 مليون من الأسر يعيشون بغير زواج، وأن هناك انتشاراً واسعاً للقبول بفكرة العيش بلا زواج داخل المجتمع الفرنسي.
وفي المجتمع الأمريكي، فإن قرابة نصف البالغين غير متزوجين، وكان أول مؤشر لتراجع الزواج هو زيادة الطلاق الذي أصبح يتراوح في الكثير من البلدان حول نسبة 50%، ومع ارتفاع معدلات الطلاق أصبح الشباب أكثر رفضاً للزواج، والطريف أنه ظهرت أصوات داخل المجتمع الأمريكي تحذر من تسرب نهج الزواج والطلاق في السويد إلى الولايات المتحدة، ففي السويد تكاد أن تكون المعايشة بلا زواج هي القاعدة الأساسية للأسرة.
– الأبوة المنفردة أو الأم العزباء:
انتشر مصطلح الأبوة المنفردة، أو الأم العزباء، بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الآسيوية؛ ففي الولايات المتحدة يوجد أكثر من 3.9 ملايين أُم عزباء، أي ترعى ابناً بلا أب معروف، وحسب كتاب «كل النساء العازبات» (All the Single Ladies) للكاتبة ريبيكا ترايستر، فإنه في العام 2009م فاق عدد النساء غير المتزوجات عدد النساء المتزوجات، وذكر إحصاء للاتحاد الأوروبي عام 2020م أن 41.9% من المواليد جاء خارج إطار الزواج، ووفقاً لمسح أجراه مركز «بيو» في أكتوبر 2021م، فإن النساء العازبات اللائي يقمن بتربية الأطفال بمفردهن والأزواج الذين يعيشون معاً بلا زواج يشكلون خطراً وضرراً على المجتمع.
– تراجع الأمومة والأبوة:
أصبحت الأمومة والأبوة عبئاً، وهذا يفتت الأسرة؛ في كتابها الصادر قبل 20 عاماً بعنوان «ثمن الأمومة» (The Price of Motherhood)، تتحدث المؤلفة آنا كريتندن عن انتشار النظر للأمومة باعتبارها وظيفة غير منتجة، وتساءلت مستنكرة: لماذا لا تزال الوظيفة الأكثر أهمية في العالم هي الأقل قيمة؟ وتآكل مكانة الأمومة يتسبب في تردي الأسرة وتفككها بلا شك.
وتعاني الأبوة من محاصرة في ظل الحداثة، باعتبارها أحد مظاهر السلطة التي يجب إضعافها، والغريب أن هناك مكافحة لمفهوم الأبوة داخل الأسرة تقوده الدولة في بعض المجتمعات؛ لذا رفع داخل مجتمعات غربية شعار «آباء أقوى.. مجتمعات أقوى»، وحذر البعض من تآكل الأبوة، مثل ديفيد بلانكنهور في «أمريكا بلا أب» (Fatherless America).
وفي النهاية، يظل السؤال: حتى متى تظل العائلة تتبخر بهذه الصورة المخيفة التي ينال شررها المجتمع كله في مقتل؟
___________
(1) الفردانية (individuality) تشير إلى النظريات والاتجاهات السياسية والاجتماعية والتاريخية التي تقدّم الفرد وتمنحه الأولوية على الجماعة.