يبدو أن التغييب القسري للإسلاميين عن المشهد في الكثير من البلدان العربية أحدثَ تغيرات وتحولات في بنية التدين؛ فالإسلاميون لم يكونوا فواعل سياسية فقط، لكن كان لهم حضور ذو جذور بعيدة وقوية على الصعيد الاجتماعي والديني، وكذلك في مجال العمل الخيري، وأنتج ذلك أنماطاً من التدين استطاعت أن تفرض نفسها على المجال العام طوال أربعة عقود بلا انقطاع.
في الحقيقة، ما تزال الحركة الإسلامية حاضرة في عدد من الكتابات والتحليلات الغربية، إذ يرفض هؤلاء التسليم بأنها قد انتهت، وأن الإنهاك الذي تعرضت له سيقود حتماً إلى اختفاء دائم على غرار تجربة الشيوعيين والناصريين، ففي دراسة «مستقبل الإسلاموية من خلال عدسة الماضي» (The Future of Islamism through the Lens of the Past) للبروفيسور «مارك لينش»، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، التي نشرها مطلع عام 2022م، أكد أن الحركة الإسلامية ربما تعاني من ظروف كارثية، لكنها، حسب قوله، أثبتت تاريخياً أنها مرنة وقادرة على العودة للحياة العامة من جديد، وأنها قادرة على التعافي من انتكاساتها، والانتعاش رغم الظروف المدمرة، لكنه أشار إلى أن عوامل تعافيها الحالية أقل توفراً مقارنة بالفترات السابقة.
أما «ستيفين كوك»، الكاتب المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، فأكد في مقاله بمجلة «فورين بوليسي» بعنوان «الإسلاموية جاهزة للعودة» (Islamism Is Ready for a Comeback in the Middle East)، في مارس 2022م، أنه تم تضخيم موت «الإسلام السياسي» في الشرق الأوسط، ولكن نظراً للطريقة التي أصبحت بها جماعة الإخوان المسلمين متداخلة مع المجتمع المصري، فمن المرجح أن تستمر الجماعة في الحضور حتى مع جهود النظام لإعادة صياغة التاريخ بطريقة تجعل الجماعة غائبة عن مصر، إلا أنهم سيتأقلمون ويتطورون.
ولكن كيف يمكن النظر إلى المجتمعات -خاصة المصري- مع تغييب الإسلاميين خلال العقد الماضي، وهل أثَّر ذلك على حالة التدين، وأحدث تغيرات جوهرية في أنماطه؟
تراجع حالة التدين
هناك تراجع للتدين، وظهور حالة نفور من الدين قد تصل إلى الإلحاد، وهو أمر تسبب في قلق متزايد داخل المؤسسة الدينية الرسمية، ففي كتاب «الانحدار المفاجئ للدين» (Religion’s Sudden Decline) لعالم الاجتماع «رونالد إنغلهارت»، الذي قام بدراسة استقصائية لأكثر من 100 دولة، أي 90% من سكان العالم، خلال الفترة بين عامي 1981 – 2020م، أكد وجود انحدار عالمي في التدين، بدرجات متفاوتة، ولم تكن منطقة الشرق الأوسط ببعيدة عنه، فقد لوحظ صعود اللادينيين، رغم أن المنطقة ما تزال أكثر تمسكاً بالدين.
وقد رصد تقرير «الباروميتر العربي»(1) عام 2019م انخفاضاً لمؤشرات التدين في العالم العربي، وارتفاعاً في نسبة غير المتدينين في غالبية منطقة الشرق الأوسط من 8% في عام 2013 إلى 13% في عام 2018م، وهذا التغيير سجل أعلى مستوياته في الفئة العمرية التي تقل أعمارها عن الثلاثين عاماً؛ بل إن 18% يعتبرون أنفسهم غير متدينين.
وترجع دراسة غربية السبب في ذلك إلى أن الإسلاميين كانوا قادرين على توليد قناعات لدى الكثير من فئات المجتمع بالإسلام، خاصة بعدما حظيت رموزهم الدينية بصدى ثقافي واسع في المجتمع، وقد أدى تدهور هذه الميزة إلى تراجع التدين، وكذلك فقد حوى خطاب الكراهية في الإعلام الرسمي ضد الإسلاميين نوعاً من التطاول على الإسلام نفسه، إذ قفزت الرسالة الإعلامية من شيطنة الإسلاميين إلى شيطنة الإسلام، وهذا ما دعم الأفكار الإلحادية، كما أن القمع الذي تعرضت له الحركة الإسلامية أوجد نوعاً من الخوف من التدين، في ظل تراجع الثقة في غالبية المؤسسات الرسمية الدينية.
وفي الحالة المصرية، جرى تأميم غالبية المساجد، وإخضاعها لسيطرة الدولة من خلال وزارة الأوقاف، التي قامت خلال سنوات قليلة بإبعاد الدعاة والوعاظ الإسلاميين، ووضعت يدها على أكثر من 11 ألف مسجد، منها 6 آلاف كانت تشرف عليها الجمعية الشرعية، وتدير الوزارة قرابة 90 ألف مسجد.
ومع تأميم المساجد تم تأميم الخطاب الديني نفسه، من خلال توحيد خطبة الجمعة، بحيث لا تخرج عن اهتمام السلطة وتوجهاتها، كما صدر قانون تنظيم ممارسة الخطابة عام 2014م، الذي أحكم سيطرته على الخطاب الديني، ونص على العقوبة بالسجن والغرامة لمن يمارس الخطابة أو التدريس الديني في المساجد بدون ترخيص، فأتاح هذا القانون للوزارة حظر 12 ألفاً من الدعاة الذين لم يحصلوا على تعليم ديني في الأزهر من الخطابة في المساجد، ومن ثم أغلق منافذ ورئات كثيرة كان يتنفس فيها التدين الشبابي من خلال دعاة يجيدون مخاطبتهم، وتسربت هذه الفئات إلى عدة طرق لتنفس بها عن حاجتها للتدين.
التدين الانسحابي
سيطرت فكرة التدين الفردي والانسحابي على الكثير من الفئات خاصة الشبابية، وذلك حفاظاً على ذواتهم من مخاطر التدين المتفاعل مع الحياة، إذ تحولت التقوى الذاتية المنعزلة إلى منطقة آمنة توفر الطمأنينة للحفاظ على الذات، وهو ما أنتج تديناً انسحابياً، متعايشاً مع المتناقضات، دون أن يخطو نحو تغييرها، وهو تدين لا يمتلك مشروعاً إصلاحياً، وسمح ذلك بظهور تدين شكلاني يهتم بالشعائر ويتناسى الحقوق الاجتماعية، ويتصالح مع كثير من الانحرافات والانتهاكات ويبررها، ويعمق مفهوم الانفصال بين حقوق الله وحقوق العباد، ودعم هذا التوجه قدرة الشباب على توفير قدر من الإشباع الديني من خلال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وباتوا أكثر انجذاباً للدعاة خارج النطاق العربي.
في حين بات التصوف أكثر جذباً للشباب، خاصة بعدما تسامحت السلطة مع الحضور الصوفي في المشهد العام؛ فرعَتْ احتفالاتها، وموالدها، وتغاضت عن صناديق نذورها التي وصلت إلى صناديق في 200 مسجد، وزادت حصيلتها عام 2021م عن 30 مليون جنيه، فكان الهوى للصوفية بديلاً آخر آمناً للتدين، ولم يتورع الصوفية عن بث احتفالاتهم من المساجد وما صاحبها من إدخال للآلات الموسيقية، ومن الممكن القول: إن الصوفية بطرقها الـ77 أصبحت مكاناً للهروب لممارسة التدين، وليست نوعاً من الاختيار لدى قطاعات كثيرة من الشباب خاصة في الطبقة الوسطى، وأصبح لدعاتهم شهرة واسعة مثل الشيخ جابر بغدادي الذي وصف بأنه الداعية الأشهر على منصات التواصل الاجتماعي.
الإلـحاد
كان الإلحاد مساراً كشف عن غياب الحركة الإسلامية، إذ تنامت الاتجاهات الإلحادية، وانعكس الإلحاد في مجال العلاقات الاجتماعية، خاصة الزواج، فشهدت المحاكم المصرية آلافاً من حالات طلب الخلع على خلفية اتهامات بالإلحاد، فـأظهرت إحصائية لمحكمة الأسرة المصرية أن عدد دعاوى الطلاق التي تلقتها خلال عام 2015م بسبب إلحاد الزوج أو تغيير عقيدته بلغت أكثر من 6500 قضية، كما أن قضايا الطلاق أو الخلع بسبب إلحاد الزوج شهدت ارتفاعاً بنسبة 30% بنهاية عام 2016م، وهذه القضايا لم تكن واسعة الانتشار في محكمة الأسرة منذ 5 سنوات، كما زعمت دراسة أمريكية أن عدد الملحدين في مصر 3% من عدد السكان.
وأدى تنامي الإلحاد إلى شعور المؤسسة الدينية الرسمية بالفزع، فتحركت للقيام بدور دفاعي، متمثلة في الأزهر، الذي أنشأ وحدة «بيان» لمواجهة الإلحاد، وفي نوفمبر 2021م ظهر وعاظ الأزهر في قوافل دعوية في غالبية المحافظات على مستوى الجمهورية، وتوجهوا إلى المقاهي لمخاطبة الشباب لمواجهة الإلحاد، والأفكار التي تدعوهم إلى الانتحار، وفي سبتمبر 2022م حذر أسامة الحديدي، مدير مركز الأزهر العالمي للفتوى، من أن عدداً من الأمهات يتصلن بالأزهر ويشتكين من توغل الإلحاد بين أبنائهن، ولم تتوقف دعوات شيخ الأزهر د. أحمد الطيب التحذيرية من الإلحاد، معلناً أنه هو الخطر الداهم، وقال: «للإلحاد الجديد الآن مؤسسات وجمعيات وصناديق، ويتم الآن تشجيع الشباب على مهاجمة الدين».
ويبدو أن تلك الظواهر ستستمر في ظل تغييب الإسلاميين؛ بل ستظهر ضغوطاً أشد للاعتراف بحق الشواذ في ممارساتهم، أو الاعتراف بالمعايشة بين الرجل والمرأة بدون زواج.
__________________________________
(1) مؤسسة بحثية تعنى بالاتجاهات والقيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمواطنين العاديين في العالم العربي.