ليس من المبالغة في شيء أن نقرر أن الحياة الاجتماعية للمجتمع (وعلى رأسها الأسرة) هي أكثر من تأثر بغياب الإسلاميين، وتعطل الكثير من الأنشطة الدعوية؛ ففي ظل الظروف الاقتصادية المعقدة التي تعيشها الأسر والمجتمعات من ناحية، وفي ظل حالة السيولة التربوية والفكرية النابعة من تشابك إعلام السماوات المفتوحة بما يحمل من قيم وافدة من الشرق والغرب مع التقاليد المحلية التي يعاد إنتاجها بأثواب زاهية، نشأت تلك الثقافات السائلة والمتناقضة التي تضرب في بعضها بعضاً وتعصف بكيان الأسرة بشكل جنوني.
ارتفعت معدلات الطلاق في السنوات العشر الأخيرة بطريقة صادمة، ونشأت أفكار غاية في الشذوذ تروج لإنهاء مؤسسة الأسرة، وسادت حالة من التوجس بين الشباب والشابات، أو ما يمكن أن نطلق عليه «الشك الارتيابي» في القيم الأصيلة للزواج، وأصبحت الشبهات لا تجد من يتصدى لها ويفندها، مع عجز الدعاة الرسميين عن مواجهة هذه الزلازل والأعاصير الفكرية.
والحقيقة أن عجز الدعاة الرسميين عن حماية الأسرة المسلمة من تلك الهجمات، وعدم قدرتهم على شرح مفهوم القيم الحقيقية للزواج له أسباب متعددة، منها:
– اتساع ساحة الحياة الاجتماعية مع تنوع الطبقات وتعدد الثقافات واختلاف المراحل العمرية للمخاطبين بالخطاب الدعوي يجعل الحاجة ماسة لعدد أكبر من الدعاة ونوعيات مختلفة منهم الذين يقدمون خطاباً تقليدياً مدرسياً لا يراعي تلك الاختلافات.
– عدم امتلاك الكثير من الدعاة الرسميين طرقاً إبداعية جديدة للدعوة، والاكتفاء بالوعظ والإرشاد التقليدي، وعدم قدرتهم على التعاطي مع الحراك الاجتماعي أو صناعة مؤسسات حيوية لتوجيه الخطاب الدعوي بطرق جذابة غير مباشرة.
لذلك كله، افتقدت الحياة الاجتماعية ذلك الدور بالغ الحيوية والأهمية الذي كان يمارسه كثير من الإسلاميين، وتلك المؤسسات التي كانت تدعم الأسرة بشكل مباشر وغير مباشر، وتركت الساحة شبه خالية لدعاة التخريب الاجتماعي وتفكيك الأسرة، مدعومين بقوة المؤسسات الدولية من جهة، ودعم الحكومات المحلية من جهة أخرى.
مرجعية ضبابية
إذا بحثنا عن السبب الحقيقي العميق والرئيس لحالة التفكك الأسري التي تتوج بالطلاق في المجتمعات الإسلامية؛ سنجد أنه غياب مرجعية واضحة يمكن الاحتكام إليها والتماهي مع فلسفتها والبناء التربوي وفقاً لمنطلقاتها؛ فالمجتمع المسلم تتجاذبه عدة مرجعيات متناقضة ومتصارعة تمثل بنى عميقة للعلاقات التي تتشابك وتتعقد وتنتهي لحالة التفكك والانهيار.
فالتيار النسوي الصاخب المدعوم أممياً بمواثيق ملزمة للحكومات المحلية نجح في خلق رأي عام نسائي متعاطف مع ما يطرحه، واستطاع استغلال كافة تناقضات المجتمع في صناعة نظرية متكاملة للتفكيك (نفسياً واجتماعياً واقتصادياً).
بينما التيار التقليدي الذي ينتصر للعادات والتقاليد الجائرة لا يزال يناطح التيار النسوي، وكثيراً ما يرتدي ثياباً دينية مزورة يواري بها عورات الظلم والفساد في مرجعيته، بل يمكننا القول: إن اقتطاع النصوص ولَي أعناقها لتوظيفها في الانتصار لمرجعية أخرى (استغلالاً للمشاعر الدينية العميقة للشعوب) هو إحدى الآليات المتبعة للترويج لهذه المرجعيات المتضاربة، ومع غياب الدعاة وعدم القدرة على الصدع بالحق في كثير من الأحيان صارت الأمور ملتبسة، وصارت حزمة الحقوق والواجبات كما جاء بها التشريع الإسلامي غامضة، والمسألة تتجاوز الطرح الفكري المجرد.
فمع غياب الفعاليات والندوات والمحاضرات والدورات والاستشارات واللقاءات المباشرة باتت الرؤية باهتة في العقول فاترة على مستوى المشاعر؛ ومن ثم تراجعت في الواقع الحقيقي للحياة تاركة للمرجعيات الأخرى الصراع القاتل.
الفقر والكفر
السبب الأكثر شهرة للارتفاع الجنوني في معدلات الطلاق هو العامل الاقتصادي؛ ففي بلد كمصر، بلغ عدد الفقراء فيها 30% من عدد السكان، بينما يهدد الفقر بأنيابه المخيفة 30% آخرين، حيث تآكلت الطبقة الوسطى بدرجاتها تحت مطرقة المشكلات الاقتصادية المتراكمة وانهيار العملة المحلية يوماً بعد آخر، وبات شبح الأزمة الاقتصادية يسيطر على كافة مناحي الحياة، ومثل ذلك كله ضغطاً نفسياً واجتماعياً هائلاً، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر والكفر، فالفقر والعوز إن لم يكن معه قوة إيمانية هائلة قد يؤدي للكفر؛ أفلاً يؤدي إلى خراب الذمم وفساد الأخلاق وسوء الطباع؟ ألا يتحول الإنسان المسحوق بالفقر المحروم من أساسيات الحياة إلى إنسان بالغ العصبية حاد الطباع غير قادر على الحوار الهادئ، وقد يتجه لممارسة العنف على من هو أضعف منه، وقد يقع في براثن المخدرات حتى يفقد الصلة مع الواقع لأنه غير قادر على التعايش معه؟
ألا يؤدي كل ذلك لخلافات أسرية مشتعلة تنتهي في نهاية المطاف بالطلاق وما يعقبه من صراع لا يقل في سوء أثره على مستقبل الأبناء من الطلاق ذاته؟
كان الإسلاميون يؤدون دوراً عظيماً في شحذ القوى الإيمانية ليستطيع الناس الصبر على هذه الابتلاءات، وكانوا يمارسون دوراً عظيماً في حل الخلافات وتقريب وجهات النظر بين المتنازعين، وكانوا يقومون بدور بالغ الأهمية في تقديم الدعم والخدمات لهؤلاء المسحوقين بالفقر حتى لا تتحطم عظامهم تحت وطأته.
وكان كثير من الأسر الأشد فقراً واحتياجاً يصلها دعم مادي شهري أو بعض أساسيات الحياة من السلع الغذائية الضرورية أو كلا الأمرين، بل إن كثيراً من الأسر التي تنتمي للطبقة المتوسطة (خاصة الطبقة المتوسطة الدنيا) استطاعت العيش بكرامة حقيقية عن طريق تأمين خدمات تعليمية وعلاجية على مستوى عال وبأجر رمزي زهيد.
غياب هذا الدور المحوري في محاربة الفقر ترك فراغاً هائلاً لا يشعر به إلا هذه الطبقات الكادحة المطحونة التي كان يمثل لها ستراً يبقيها في دائرة آمنة ولو على مستوى الحد الأدنى، وبغيابه انكشف هذا الغطاء الآمن الساتر وتجسدت الأزمات الاقتصادية في صورة خلافات اجتماعية وأسرية طاحنة.
صعوبات تربوية
لعل أفضل ما كان يميز بعض الإسلاميين هو قدرتهم على التفاعل والتعاطي مع حاجات الشباب والناشئة الذين لا يتجاوبون مع الوعظ المباشر والنقد الصريح؛ فمن خلال الرحلات والحفلات والمعسكرات والمسابقات والتحديات والأنشطة الفنية والرياضية، بل وحتى الأنشطة الخدمية، كان يتم دمج النصح أو النقد بطريقة سائغة مناسبة لعقول الشباب ومتجاوبة مع طبيعتهم الانفعالية وطاقتهم العالية، لذلك فإن غياب هؤلاء الإسلاميين ترك أثراً فادحاً في هذا الجيل من الشباب.
هذا الفراغ التربوي أجهد الأسرة وأضاف عليها عبئاً إضافياً في التوجيه والتربية، حتى الأسر الأكثر التزاماً وتديناً ووعياً وثقافة وقعت في هذا المأزق التربوي؛ فطاقة الشباب العالية تتجاوز قدرات الأسرة المحدودة في التوجيه، كما أن الأسرة غير قادرة على ممارسة هذه الأنشطة الترفيهية الجماعية التي كانت تقدم للأبناء، أما الأسر الأشد فقراً والمضغوطة بالأزمات الاقتصادية فهي لا تمتلك أي فائض لما قد تعتبره ترفاً.