لحكمةٍ إلهيَّـةٍ، قد تُكَلف خطوب الحياة الإنسان ما لا يريد، وما لا يطيق، ويتجلَّى هذا المعنى في طفولة عبدالعُـزَّى بن عبد نُـهْم بن عَـفِيف وصباه.
مات أبوه فكابد قهر اليتم، وحزنه المرِّ، وعانى سلسلة متواصلة من نوائب الفقر، حتى كفله عمه وأعانه على حاله فأيسر(1)، ومضت به الأيام رخيَّـة(2).
وفيما كان يتقلب في رعاية عمه بقبيلة مُـزَينة القابعة في أحضان جبل ورقان(3)، انصدع نور الإسلام، وأرسل أشعتَهُ في الآفاق، وطفق المسلمون يمرون بقبيلته في رحلات عمل اعتادوا عليها، وطفق هو يسمع منهم القرآن في رواحهم وغدوهم، ودار بنفسه ما جعلها تتوق إلى سماع المزيد، حتى تفتح قلبه لنور الإسلام فاعتنقه سراً، ولكن ما حيلته وقد تحدث عمّه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسرف في وَسْمه بما وَسَمَه به المشركون؟
كانت الطيبة تأخذ بطرفي العلاقة بين عبدالعزى وعمه، وتطيب نفسه بالركون إليه بعد أن ألاذه به، ولكن رابَهُ أن يأبى عمه الإسلام، ورابَهُ أكثر أن يظل يأباه.
وتمادى عمه في الكفر أو تمادى الكفر في عمه، ومضت سنون لم يعشها عبدالعُزَّى مع النبي، واستطالت أيام الانتظار وهو يستخبر كل ركب عنه صلى الله عليه وسلم، ويصوغ شوقه للقائه سطوراً من أسى وحنين، وتحالف حنينه مع يقينه وأتيا على تردده بأنه مندفع في طريق نهايته أسعد من بدايتِهِ، وكاشفَ عمه بنيتِهِ: يا عم، إنِّي قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فائذن لي في الإسلام.
دُهِش عمه ثم حمي وصاح: والله لئن اتبعت محمداً لا أترك بيدك شيئاً أعطيته إياك إلا نزعته منك، حتى ثوبك.
فردَّ دون تردد أو إبطاء: فأنا والله مُتبِعه وتارك عبادة الحجر وهذا ما بيدي فخذه(4).
ولئن كان عبدالعزى هنا قد أعاد كلامه أدراجه، وأغلق من دونه بابه وأضمر إسلامه حتى يهيئ الله له مخرجاً ما انحنى عليه لسان بلائمة، ولكنه يسعى للدين جهده، ولا يخشى فوات رزقه.
وأخذ عمه كل ما أعطاه له حتى جرده من إزاره، فأتى عبدالعزى أمه، ولأنه لا يوجد شيء أدفع لنفوس الأمهات إلى الرضا أكثر من رؤيتهن للرضا يغمر نفوس أولادهن فلم تراجع الأم الطيبة ولدها، وبحركات متحمسة أحضرت بجاداً(5) لها وشقته نصفين، فائتزر بواحد وارتدى الآخر، وانطلق يغزّ السير نحو المدينة لا مال له ولا ثياب عليه سوى البجادين، وفي السحر انتهت رحلته بالمدينة فألجأته الضرورة إلى الاضطجاع بالمسجد.
وكان النبي إذا انصرف من صلاة الصبح تصفح وجوه الناس، فرأى عبدالعزى يثبت بصره على وجهه الشريف، وكأنه لا يريد له أن يغيب عن ناظريه، فآثره ببسمته النورانية وأومأ إليه ليدنو، فهرول عبدالعزى إليه غير مصدق، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم من خلال بسمته: «من أنت؟»، فأجاب عاجلاً سعيداً: عبدالعزى بن عبد نهم.
ولكأن الاسم كان له في النفس الشريفة وقعه السيئ، ولكن الوجه الشريف احتفى به، فصرح عن فرح لا تكلف فيه وهو يقلب بصره بين وجهه وثيابه وقال: «أنت عبدالله ذو البجادين».
وليرفع النبي عن نفسه شيئاً ويثبت فيها آخر أضاف في حنو فياض: «فالزم بابي»(6).
كلمتان، لفرط جمالها في أذن عبدالله تركا نفسه في راحة تامة مع كل الأشياء الماثلة من حوله.
رضي الله عنك يا عبدالله، أي غنم غنمته؟!
لأنك فعلت ما فعلت، ونبذت مالك وآلك وخلفتهما وراء ظهرك ابتغاء دين الله، ولأجل القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أبلغك عز وجل من قربه كل ما تريد، أو أضعاف ما كنت تريد.
وراح عبدالله يتقلب في شؤون الحياة قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفارق القرآن والذكر ويرددهما ترديداً متصلاً حتى فاضا على جوارحه ليسمعهما من حوله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، أَمُرَاءٍ هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ عنكَ فإنَّـه أَحَدُ الْأَوَّاهِينَ»(7).
وخرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك(8) وانضوى(9) عبدالله تحت رايته طامحاً إلى نيل غايته، ولجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأزره على تحقيقها: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الشهادة.
بيد أن الله كان قد أعلم رسوله بأجل عبدالله المكتوب والقريب، فربط صلى الله عليه وسلم على عضده لحى سمرة(10)، وقال: «اللهم إني أُحرم دمه على الكفار»، فردَّ رضي الله عنه من فوره: ليس هذا أردت.
وفي لهجة شفوقة طمأنه صلى الله عليه وسلم على مصيره وغايته: «إنك إذا خرجت غازياً فأخذتك الحمى فأنت شهيد، أو وقصتك(11) دابتك فأنت شهيد»(12).
ولم يمض غير قليل على نزولهم بتبوك حتى ازدادت أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم علماً جديداً، فقد مرض عبدالله مرضاً أقعده وإلى يد المنون أسلمه، وتحت تراب تبوك رقد رقدته الأخيرة، وكان لدفنه قصة حفلت بالشجن، ولنطل على أحداثها من وراء هذه المساحة الزمنية الواسعة مع عبدالله بن مسعود، يقول رضي الله عنه: والله لكأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبر عبدالله ذي البجادين، وأبو بكر، وعمر، يقول لهما: «أَدْنِـيا إليَّ أخاكما».
وأخذه من جهة القبلة حتى أسكنه لحده ثم خرج وَوَلِياهُما العمل، فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعا يده يقول: «اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه»(13).
وكان ذلك ليلاً، فوالله لوددت أني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمسة عشر سنة.
وهنيئاً لذي البجادين، فما نحسبه إلا وقد حقق أبعد غاية، وبات قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم في أُخراه، كما كان قريباً منه في دنياه.
____________________________
(1) تبدل حاله من العسر إلى اليسر.
(2) في رخاء.
(3) جبل يقع على يمين الراكب من المدينة إلى مكة، ومنازل قبيلة مزينة كانت قريبة من المدينة.
(4) صفة الصفوة (92)، أسد الغابة (2930)، سير أعلام النبلاء (2/175).
(5) البجاد: كساء غليظ خشن.
(6) صفة الصفوة (92)، أسد الغابة (2930)، الإصابة (4822).
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/159)، وابن أبي الدنيا في الأولياء (77).
(8) تبوك مكانٌ معروف يقع في نصف طريق المدينة إلى دمشق، وهو اسمٌ مشهورٌ قديماً وحديثاً، وغَزْوَةُ تَبُوك أو غزوة العسرة هي الغزوة التي خرج لها النبي صلى الله عليه وسلم في رجب من عام 9هـ بجيش يُقدر بثلاثين ألف مقاتل، وهي آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم.
(9) مال وانضم.
(10) لحاء شجرة، وهو قشرة الساق.
(11) أسقطتك فكسرت عنقك.
(12) صفة الصفوة (92).
(13) أخرجه البزار (1706).