تحرص الحكومات الاستبدادية في العالم الثالث على وجه الخصوص على تتبع أحدث صيحات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مجالات التجسس والمراقبة والتنصت على مواطنيها أملاً في إبقاء الشعب تحت المراقبة 24 ساعة في اليوم؛ تحسباً لأي تحركات للمطالبة بحقوقه أو لرفع الظلم الواقع عليه والجنوح نحو الثورة أو التمرد أو حتى توحيد صفوف المعارضين الرافضين لسياسات النظام الحاكم أياً كانت طبيعته.
ومن هنا، كانت فضائح الغرب المتقدم في أوروبا وأمريكا تتكشف من آن لآخر بتصدير أحدث أجهزة الرصد والتعذيب والقمع والمراقبة والتنصت لهذه الأنظمة المتخلفة منذ خمسينيات القرن الماضي، عقب الحقبة الاستعمارية التي رحل فيها المستعمر بجيوشه وترك أذنابه يحرسون له تلك الأوطان المنكوبة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لكي يواصل استنزاف خيراتها ونهب ثرواتها.
ولم تقف الحال عند هذا الحد في الألفية الجديدة؛ بل بدأت الشعوب هي الأخرى في اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي مع ظهور الاختراع العبقري المسمى بالإنترنت وقبله الستالايت، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث احتكرته الطبقة الأرستقراطية في بداياته، ولكن مع مرور الوقت صار متاحاً للطبقة الوسطى؛ بل والمهمشين والبسطاء في الأرياف والبوادي، فكان له فعل السحر، وأثمر هذا الذكاء الاصطناعي ثورات ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي سرعان ما تم تطويقه بكافة وسائل الذكاء والغباء الاصطناعي والبشري.
بداية، قال عمر الشال، المتخصص في الشؤون التقنية وشبكات التواصل الاجتماعي: إنه بلا شك أصبح العديد من حكومات دول العالم تتنافس حالياً في تقديم خدمات متطورة لشعوبها لتقديم خدمات أفضل بجهد أقل، عن طريق ربط قواعد البيانات واستكمال قواعد الأتمتة بين أنظمة الحكومة، ولهذا تبرز أهمية الذكاء الاصطناعي ووجوده كلاعب أساسي في قيادة وتطوير هذه المنظومة الخدمية من الحكومات ورفع كفاءة وجودة الخدمات المقدمة.
وأضاف أنه بسبب النجاح الهائل الذي حققه الذكاء الاصطناعي في «ChatGPT»، ارتفعت تطلعات المستخدمين وآمالهم في الخدمات التي تقدم لهم سواء من القطاع الخاص أو الحكومة بسبب قدرة الذكاء الاصطناعي على طرح حلول لمشكلات المستخدم المتنوعة وقابليته للتطوير المستمر.
وأوضح الشال أنه على الصعيد الحكومي، يتوجب على الحكومات أن تتبنى خطط تطوير ترتكز على الذكاء الاصطناعي بهدف زيادة كفاءة الخدمات الحكومية، وفي الوقت نفسه ضبط أو تقليل تكلفة هذه الخدمات.
فعلى صعيد أتمتة المهام الروتينية، نجد أن الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بالمهام الروتينية بشكل أعلى كفاءة ودون كلل، وفي الوقت نفسه بسرعة وبدقة عالية؛ لأن أنظمة التعلم الآلي في الذكاء الاصطناعي تتحسن بشكل كبير في المهام المكررة، خصوصاً التي تتضمن كميات هائلة من البيانات مثل الموجودة لدى الجهات الحكومية.
وأشار خبير التقنيات الرقمية إلى أن الكفاءة ستكون عالية جداً في توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير مراكز الاتصال والإجابة عن الاستفسارات وتحسين تجربة المستخدم.
وعلى صعيد التخطيط وحل المشكلات المرورية، كمثال، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحسن من تخطيط المدن وتقديم خدمات النقل العام بشكل أكثر كفاءة؛ لأن استخدام الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل بيانات المرور وتحديد أفضل الطرق والتوقيت لتحسين حركة المرور وتقليل ازدحام السيارات وتقديم نصائح تنفيذية لحل المشكلات المتكررة في هذا الإطار.
كما أن تحليل معلومات المستخدمين –الشعب في هذا المثال– سيساعد بقوة في فهم توجهات الشعب واحتياجاته بشكل أكثر كفاءة من الطرق التقليدية القائمة على الاستطلاعات الميدانية وغيرها من الطرق غير المرتكزة على أدوات الذكاء الاصطناعي.. هذه بعض الجوانب الإيجابية من وجهة نظري لاستخدام الذكاء الاصطناعي.
سلبيات الذكاء الاصطناعي
ولفت الشال إلى أن الذكاء الاصطناعي له أيضاً جوانب سلبية، حيث تكمن في سوء استخدام هذه الأدوات من الحكومات ضد شعوبها بدلاً من خدمتها لهم.
لأن الذكاء لديه القدرة -بعد تحليل عدد كاف من البيانات- أن يتوقع تصاعد الغضب الشعبي كمثال بخصوص أمر معين، وينتج عن ذلك أن تتخذ الحكومات قرارات قمعية بدلاً من تفهم احتياجات شعوبهم.
وبشكل مبسط، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على مساعدة الجهات المسؤولة لمعرفة أنماط المجرمين والمساعدة في القبض عليهم، وهي الأداة نفسها التي قد يتم استخدامها لقمع المعارضين والسياسيين، فالمشكلة تكمن في الاستخدام وليس في الأداة نفسها.
من جهته، يؤكد سائد حسونة، الباحث المتخصص في قضايا الإعلام الرقمي والإنترنت بقطاع غزة، أنه بكل تأكيد الحكومات هي الأكثر قدرة والأسرع في استخدام التقنيات الحديثة إن كان للاستخدام فيما يتعلق بإدارة الحكومة الإلكترونية، وبالتالي التحكم في مناحي الحياة العامة للشعب، أو من خلال فرض القيود والمحددات التي توجب المواطنين الالتزام بها.
ولهذا، يمكن أن تكون إيجابية فيما يتعلق بتيسير المعاملات الإدارية، أو فرض الالتزامات عليهم وفق سلوك محدد، بالإضافة إلى أنه من الخطر المتمثل في كون مجموعة صغيرة من الشركات هي التي تتلاعب باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، بالمعلومات التي يتم نشرها عبر المواقع الإخبارية ورسائل البريد الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي.
ويضيف حسونة أنه وإن كان يبدو من الواضح أن مزايا استخدام الذكاء الاصطناعي أكبر من عيوبه، مع ذلك، فمن الواضح أيضًا أن المهندسين والمصممين؛ بل والمجتمع ككل، يجب أن يأخذوا في الاعتبار العيوب المذكورة أعلاه من أجل مواجهتها بالعمق والصلابة التي يتطلبها الموضوع، حيث إن الذكاء الاصطناعي موجود هنا، وهو موجود ليبقى، وشيئاً فشيئاً يتغلغل في المزيد والمزيد من مساحات حياتنا اليومية.
وحول استخدامات الشعوب للذكاء الاصطناعي سواء في الثورات أو متابعة ونقد العمل الحكومي، يؤكد أن تطبيقات الإنترنت اليوم صارت عصب هذا الذكاء الاصطناعي، حيث نتلقى معظم المعلومات عبر الإنترنت أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويمكن لمنصات التواصل الاجتماعية أو الأطراف الوسطاء التحكم فيما نستهلكه، ولذلك، فإننا في بعض الأحيان لا نكون قادرين على اتخاذ قرار مستنير بسبب السرد المتحيز المقدّم لنا من هذه المنصات؛ ما يؤثر على حريات الشعوب في الكلام والتعبير.
وعلى الرغم من أن هذه القضايا تبدو للوهلة الأولى غير ذات صلة، فإن نظرة مقربة فاحصة تكشف العلاقة الوثيقة بين الذكاء الاصطناعي وحرية التعبير.
ويرى الخبير الفلسطيني أن الأدوات التكنولوجية في الوقت الحالي تشكّل الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع المعلومات، وطريقة وصولهم إليها وممارستهم حريتهم في التعبير، يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على كيفية تنفيذ الأشخاص لهذه الأنشطة، من خلال محركات البحث أو شبكات التواصل الاجتماعية، على سبيل المثال.
وبالمثل، فيما يتعلق بالوصول إلى المعلومات التي يبني الأشخاص أفكارهم الخاصة اعتمادًا عليها، فإن الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لها تأثير كبير على إمداد الجماهير بالأخبار والتأثير على صناعة المحتوى بطريقة أو بأخرى، وعلى آراء وقرارات مجتمعات بأكملها بناء على رغبات مبرمجي هذه الخوارزميات الصناعية الذكية.
وشدد حسونة على أن هذا أمر مقلق، خصوصاً حين نتحدث عن أنظمة الذكاء الاصطناعي ذات الشفافية القليلة أو معدومة الشفافية، التي يمكن أن تستبعد أو تؤكد المعلومات المهمة أو الحساسة بشكل انتقائي، وبالتالي التلاعب في عملية صنع القرار في مجتمع ما من جذورها، المجتمع الذي يمكن أن يكون كبيراً كمدينة أو بلد أو قارة بأكملها.