إذا كانت الأسرة هي الجسر الذي يربط بين الفرد والمجتمع، أو الحلقة الوسطى التي تمثل جدار الحماية للفرد حتى لا يشعر بالتيه والاغتراب في هذا العالم، وهي أيضاً جدار الحماية للمجتمع عندما يواجه رياح التفكيك، فإن الحفاظ عليها وعلى تماسكها ومدها بأسباب القوة والحيوية عمل بالغ الأهمية، كما أن السعي لتقويضها وخلخلتها هدف إستراتيجي لشياطين الإنس والجن.
سعى فرعون لسحق بني إسرائيل عندما خطط لتحطيم أسرهم عن طريق التلاعب بالتوازن بين الجنسين باستخدام آلية القتل والتنكيل حتى يضمن شرذمتهم، وكانت أكبر كبائر الساحر أنه وبطريقة ما يثير الكراهية والنفور حتى تنفصم العلاقة بين المرء وزوجه وتتشظى، وفي صحيح مسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت، فيلتزمه»، فأعظم فتنة يتعرض لها البشر هي تفريق الأسرة وغياب السكن.
يحدث ذلك بالقوة الخشنة كما فعل فرعون، أو بقوة القوانين والتشريعات الملزمة التي تصب في نهاية المطاف للخلخلة والتفكيك، أو بالقوة الناعمة كنفث السحرة ووسوسة الشياطين، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي العاطفي الذي يمثل النسخة السحرية الأحدث في هذا الإطار.
أزمة وجودية
يعاني الإنسان المعاصر من أزمة وجودية خانقة نتجت عن غياب المعنى والمغزى من حياته؛ حيث لا قضية كبرى تشغله، ولا قيم ثابتة تتمحور حولها حياته؛ فأصبح يعاني من حالة سيولة فكرية وقيمية صيغت في أطروحة الحرية الكاملة التي تجعل من الإنسان الفرد مركز الوجود، وجعلت من حقوقه (الطبيعي منها والشاذ) قضيته الكبرى؛ فكان من الطبيعي أن يضرب ذلك الأسرة في مقتل، ليس لأن الأسرة تصادر حق الفرد في الحرية، ولكن لأن فلسفة الأسرة تقوم على ركائز المنح والعطاء والإيثار والواجب، وهي قيم تتعارض مع الفردانية والحرية المطلقة.
الفردانية هي المنتج الذي أفرزته الأزمة الوجودية لإنسان ما بعد الحداثة؛ حيث الفرد لا الأسرة وحدة بناء المجتمع، وهي تَصِم الأسرة بخنق تلك الذات، وبالحد من فضاء الحرية الذي تعايشه، ولقد ضربت الفردانية الأسرة بقسوة، وتجلى ذلك في ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج والسخرية منه ومن مؤسسة الأسرة، ثم في معدلات الطلاق المرعبة، بل وفي ظاهرة الطلاق الصامت المتنامية وغياب التواصل داخل الأسرة سواء بين الزوجين أو بينهما وبين الأبناء، وما ذلك كله إلا تجليات الفردانية في سعيها للتخلص مما يعيق إشباعها.
انعكست الفردانية على الأسرة المسلمة أيضاً، على الرغم من أنها لا تعاني من تلك الأزمة الوجودية بعد الحداثية، ولكنها مستهلك جيد للتقنيات الرقمية التي أنتجتها الذات الفردانية في الغرب؛ فكان أن انعكست الأدوات والتقنيات على منظومة القيم والأفكار لتتجه لإشباع الذات الفردية وتحمي حدودها بطريقة متطرفة، وأصبحت قيمة المتعة الشخصية تعلو على قيمة العطاء والإيثار والواجب، وبدأت الأسرة المسلمة تواجه صعوبات جمة في التواصل الحقيقي.
حوسبة عاطفية
لقد أضحى إنسان ما بعد الحداثة غير قادر على إقامة علاقة طويلة الأمد كتلك التي تؤسس على مثلها الأسرة؛ لأنه يقدس الفردانية، فقام بتطوير التقنيات الرقمية كي تشبع لديه الحاجة الفطرية للتواصل، وإن كان تواصلاً مزيفاً يكرس لاستلاب واقعه واغتراب روحه، فهو يريد أن يعيش مع الناس، ويريد ألا يحتك معهم.. يريد أن يجد متعة التواصل ولا يريد أن يقوم بتسديد الثمن.. يريد أن يجعل من عشرات الأصدقاء الافتراضيين بديلاً لأسرة واحدة حقيقية.. يبحث عن الدعم والتعاطف دون أن يبذله فكانت وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقات العالم الافتراضي حيث العلاقات المزيفة والسطحية والقصيرة الأمد هي أكثر ما يميزها، وهي في مجملها غير مشبعة ولا تمنح الإنسان القلِق السكينة التي ينشدها.
ولكنه وبدلاً من البحث فيما وراء الأزمة الوجودية التي يعيشها هذا الإنسان الرقمي، وكيف يستطيع استعادة قضاياه الكبرى بعيداً عن فخ الفردانية، وكيف يستعيد قيمه النبيلة بدلاً من السعي وراء قيم المتعة سواء كانت جسدية أو نفسية؛ نراه يسعى للمزيد من الغوص في العلاقات الافتراضية عن طريق تطوير أدوات التقنية الرقمية، أو ما يطلق عليه الحوسبة العاطفية.
تبدو تطبيقات الذكاء الاصطناعي العاطفية كحل مثالي لإنسان ما بعد الحداثة الغارق في الفردانية الذي يريد الاكتفاء بذاته، فهو يحب نفسه ويثق فيها ويحاورها ويدعمها ويسعى لإسعادها وإشباع احتياجاتها، ويريد لها تحقيق التواصل العاطفي والاجتماعي دون أن يبذل جهداً، وهو أمر غير ممكن مع البشر الحقيقيين الذين يريدون علاقات تبادلية تفاعلية.
لذلك، سعى هذا الإنسان الرقمي لتجاوز العلاقات مع البشر حتى وإن كانت افتراضية ليقيم علاقات مع الآلة.. الروبوت المزود بمهارات الذكاء الاصطناعي القادر على إدارة حوار حياتي يبدو حقيقياً تماماً.. ليس هذا فحسب، فهو متاح دائماً، لا يمل أبداً، لا يخون، لا يتغير، ليس له مطالب، لا يلقي عليك التزامات.. الروبوت القادر على قياس العلامات الحيوية للإنسان من معدل الضغط ودقات القلب وعدد مرات التنفس؛ فيستطيع كشف مشاعر المستخدم، ويبدو الروبوت كما لو كان يمتلك مشاعر هو الآخر! والحديث عن روبوتات جنسية قادمة مزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي (وليس مجرد دمى) هو مسألة وقت لا أكثر!
لذلك يمكننا القول: إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي العاطفي هي الأخطر والأشد ثقلاً على مؤسسة الأسرة؛ فهو يمثل قفزة نوعية غير مسبوقة حيث الأتمتة الكاملة للتواصل المزيّف وما يحمله من قيم المتعة الاستهلاكية التي قد تصل حد عبادة الجسد.
ليس هذا فحسب، فبعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي وعبر خاصية التعرف على الوجوه تستطيع التتبع والتجسس واقتحام الخصوصية، واستخدام مثل هذه التقنيات داخل نطاق الأسرة كفيل بصب مزيد من الزيت على الحرائق المشتعلة بالفعل جراء غياب الثقة.
هل يمكن استثماره؟
هل يعني هذا أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي الاجتماعية والعاطفية شر محض؟ هل يمكننا المطالبة بوقف مثل هذه التطبيقات أو حتى وضع ضوابط لعملها؟ والإجابة عن السؤال الثاني هي بالنفي؛ لأنه سوف يستمر تطوير تلك البرمجيات، ولأننا مستهلكون لهذه التقنيات الرقمية ولسنا منتجين لها فسوف تظل الضوابط التي نطالب بها دون دعم حقيقي خاصة مع استشراء الفردانية كدافع من جهة، وتوقع جنى ثروات هائلة من هذه الثورة الرقمية من جهة أخرى.
أما إجابة السؤال الأول فيتوقف على قدرتنا على إدارة معركة الوعي في التعامل مع هذه التطبيقات، فيمكننا استثمار الذكاء الاصطناعي العاطفي في تطبيقات مخصصة لبعض الحالات الحرجة من مرضى التوحد مثلاً، ويمكن تطوير تطبيقات أخرى للإرشاد الأسري، يكفي في هذا الصدد أن نذكر أن «شات جي بي تي4» هو حصيلة لما تم إدخاله من بيانات هائلة، وبعضها له سمات عنصرية؛ إذن يمكننا استثماره وتزويده وبرمجته بطريقة مختلفة تخدم قيمنا وقضايانا، وتخدم تماسك واستقرار الأسرة وهو جهد ضخم ولكنه ممكن.