يشغل ملف البيئة مساحة مُعتبرة من الأجندة العالمية للقضايا العاجلة، ويدفع نفسه يوماً بعد يوم إلى مركز الاهتمامات الدولية والمحلية، وذلك بعدما آلت إليه الأوضاع البيئية من تدهور متسارع وإفساد فج من جانب البشر، وأصبحت أبسط منابع الحياة الإنسانية على الأرض مثل الأنهار والبحار والثروات الحيوانية والنباتية في خطر داهم إما بسبب التلوث أو النضوب.
وقد وقعت تلك المآلات المؤسفة في ملف البيئة بالأساس بفعل البشر أنفسهم، فقد غلبت على السياسات منذ قيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر رغبة محمومة نحو تحقيق الربح المادي مع غض الطرف عن أي أثمان تُدفع في سبيل ذلك، فقامت المصانع بالعمل قدر طاقتها لتحقيق فوائض إنتاجية، وخرجت الحملات الدعائية تدعو الجميع للاستهلاك، فارتفاع معدلات الاستهلاك هو الضامن الوحيد لزيادة الإنتاج ومن ثم ارتفاع معدل الربح.
وقد ظهرت نتائج النهضة الصناعية تدريجياً حتى أصبحت ظاهرة رأي العين في الملف البيئي، وطالت آثارها كل كائن حي على وجه الأرض، فنجد عالم اليوم يعاني من الاحتباس الحراري وتبخر الأنهار وحرائق الغابات، وارتفعت معدلات التلوث بكافة أشكاله مما أدى إلى انقراض عدد كبير من الكائنات الحية، واختفت مساحات ضخمة من الغابات بفعل قطع الأشجار واستخدام الأخشاب في التصنيع، وانتشرت الأمراض والأوبئة بفعل التلوث، ونضبت مئات من آبار الغاز والبترول والمعادن نتيجة استخراجها بشكل غير رشيد من باطن الأرض دون حساب لإرث الأجيال القادمة.
ولم تلتفت الدول الصناعية العُظمى –أو لم تشأ الالتفات– إلى التدهور التدريجي الذي جنته يداها بسبب التصنيع في البيئة المحيطة، إلا متأخراً جداً، فبعد ثلاثة قرون كاملة من الثورة الصناعية، بدأت الأمم المتحدة وتحديداً عام 1972 في الاهتمام للمرة الأولى بالبيئة، حيث استخدام كلمة «بيئة» للمرة الأولى في عنوان المؤتمر المُنعقد بالسويد، وتم إطلاق برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ليبدأ العالم محاولاته الأولى لتدارك الجرائم والآثام التي اُرتكبت في حق النظام البيئي بفعل الحضارة الرأسمالية الصناعية، وبدأ استخدام مُصطلح «التنمية المُستدامة» الذي يفرض على دول العالم أخذ عامل البيئة في الاعتبار حين التخطيط للتنمية الاقتصادية.
الإسلام.. ومفهوم الرفق البيئي
قدم الإسلام رؤية شاملة للتنمية لا تغفل أياً من عوامل تلك التنمية، وفي القلب منها البيئة المُحيطة بالإنسان، وكما رسَّخت الشريعة الإسلامية خُلُق الرفق في قلوب المُسلمين كنهج للتعامل فيما بينهم، فقد جاء الرفق بالبيئة ركناً أصيلاً من أركان خُلُق الرفق الإسلامي الرفيع، وخاطب القرآن الكريم والهدي النبوي المسلمين بخطاب يحثُّ دائماً على حُسن استخدام البيئة والرفق في استهلاكها.
فلم يكن الرفق الإسلامي تجاه البيئة بدافع مصلحي ونفعي فقط، بل حثَّ الإسلام على حُب تلك البيئة التي هي هبة إلهية ومعجزة ربانية أبدعها الله من أجل البشر، فهي ليست مجرد ثروات ومواد خام قابلة للتصنيع والاستخدام، وإنما هي آيات إلهية يتفكر فيها المُسلم لتعزيز إيمانه وحبه للخالق الذي أبدع ذلك الكون، ومن ثم فإن هذا الكون بكافة ما يحويه من حيوان وشجر وحجر هو «أمانة» يحملها المُسلم على عاتقه ليُسلِّمها للأجيال القادمة جيلاً بعد جيل.
الإفساد في الأرض
هذا الحُب لمخلوقات الله وصنائعه في الكون كان الأساس الذي ارتكنت إليه الشريعة في خطابها للمسلمين، ونتيجة لذلك فقد جاء التحذير القرآني بعدم الإفساد في الأرض جلياً ليُجرم ذلك الفعل: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205)، فإهلاك الحرث أي موضع الزرع وإهلاك النسل أي تكاثر الحيوانات من الشرور والمفاسد التي نهى الله عنها المؤمنين باعتبارها من كبائر الذنوب التي يبغضها الله تعالى.
وقد خصص الخطاب الإسلامي قسماً مهماً للرفق بالحيوان من قبيل حُسن رعايته واللين في مُعاملته، فحذر من امرأة قد دخلت النار في قطة حبستها، وأخبر عن رجل سقى كلباً عطِشاً فدخل الجنة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن شر الرِّعاءِ الحُطَمة» (رواه مسلم)، أي الراعي الذي يُثقل على رعيته من الغنم ولا يُعاملها بالرفق واللين، كما لعن الرسول صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً يُرمى، أي نهى عن التسلي باستخدام الحيوانات وتعذيبها، فالحيوان في الإسلام حاز مكانة مهمة لأنهم طبقاً للخطاب القرآني: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) (الأنعام: 38)، وهم عباد للرحمن مثل البشر (وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء: 44)، ومن ثم فالإنسان المُسلم مُلزم ومُكلف بحسن رعايتهم والرفق بهم.
وقد ظهر جلياً في حُكم الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم من إيلاء عناية خاصة بالبيئة، ففي وصايا أبي بكر الصديق لجنوده قبيل فتح الشام قد حذرهم: «لا تعقروا نخلاً، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله»، وفي جُملة عمر بن الخطاب المأثورة: «لو عثُرت بغلة في العراق لسألني الله عنها»، وعن عمر بن عبدالعزيز أنه لما فاضت أموال الزكاة بعد إنفاقها في سائر مصارفها أمر بشراء الحبوب ونثرها على رؤوس الجبال حتى لا يقال: جاع طيرٌ في بلاد المُسلمين.
الترشيد والزهد والتنمية المُستدامة
وقد جاء الرفق الإسلامي بالبيئة مُتجلياً فيما أمر به الشرع من الزُهد وترشيد الاستهلاك، حيث حثَّ الإسلام على عدم الإسراف في الاستهلاك بشكل عام سواء في المأكل أو المشرب أو الملبس، ورغّبت الشريعة في ترك الشهوات والملذات والاقتصاد على «لقيمات يقمن بها صلبه»، وأمر المسلمين: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
وفي قصة «حي بن يقظان» قدم ابن طفيل رؤية شديدة التقدُمية بشأن رعاية البيئة والتنمية المُستدامة، فبطل القصة «حي» الذي يعيش منعزلاً بمفرده على الجزيرة، قرر أن يُزكي أخلاقه ويرتقي بها عن طريق تغيير طريقته في استهلاك موارد الجزيرة فلا يأكل ثمرة إلا ويغرس بذرتها لتنمو مُجدداً، ولا يأكل إلا الثمرات الأكثر وجوداً والأعلى إنتاجية، ولا يتغذى إلا بما يسد جوعه حتى لا يُسرف في استخدام موارد جزيرته، ولا يأكل من الحيوان إلا النوع الأكثر وجوداً على الجزيرة ولا يستأصل نوعاً بأكمله بما يحول بينه وبين التكاثر والتوالد.
ويظهر أخيراً مدى مركزية العناية بالبيئة في الشريعة الإسلامية متجلياً في مفهوم «الغرس» الإسلامي، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، في إشارة مهمة لاستمرارية دور الإنسان في الاهتمام بالبيئة حتى قيام الساعة، وحتى لو لم يكن هناك أجيال قادمة يُرجى انتفاعها من تلك النبتة المغروسة، وفي ذلك إشارة واضحة لحماية البيئة بشكل مُطلق ودون انتظار لمنفعة في المقابل، وذلك تكميلاً لمهمة الإنسان الأساسية في الإسلام وهي عمارة الكون، فالإنسان المُسلم مهمته الرئيسة هي عبادة الله وعمارة الأرض، وهي أمانة وضعها التشريع الإسلامي على عاتق المُسلمين منذ ظهرت دعوة الإسلام وحتى قيام الساعة.
_______________________
(*) باحثة في الفكر الإسلامي، دكتوراة في العلوم السياسية- جامعة القاهرة.