(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) “البقرة:183″، تعتبر هذه الآية الكريمة مدرسة من مدارس رمضان.
إن الآية الكريمة تخاطب أهل الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والإيمان محله القلب، ولا يطلع على حقيقة ما في القلب إلا الله سبحانه وتعالى.
بعد النداء على الذين آمنوا، يفرض الله تعالى عليهم عبادة الصوم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، والصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع على حقيقتها إلا الله تبارك وتعالى، فالإنسان يستطيع في خلوته أن يأكل ملء بطنه ويشرب ملء بطنه ثم يخرج إلى الناس ويدَّعي أنه صائم، وهو العبادة التي لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيرها.
ومعلوم أن الصوم عبادة ترتبط بتفعيل المراقبة الذاتية من الصائم لله تعالى، وتحري الالتزام القلبي بالغيب، ومن ثم يتحقق بها تجديد الإيمان بالله تعالى، وتجديد عمل الوجدان بالارتباط بهذا الغيب وإمعان التأمل فيه من خلال الاعتقاد التام بمراقبة الله تعالى له، وإثابته على تلك العبادة التي يرتبط أداؤها بالإخلاص والصدق والأمانة كشروط أساسية لهذه العبادة التي هي بالأساس سر بين العبد وربه.
وتؤكد الآية الكريمة بعد ذلك أن العلة في فرض الصيام هي قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والتقوى شيء عظيم ومنزلة سامية وهي أساس الدين ولا حياة إلا بها، بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق، بل هي أدنى من حياة البهائم فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى، هي كنزٌ عزيز لئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخيرٍ كثير ورزق كريم وفوز كبير وغنمٍ جسيم وملكٍ عظيم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جُمِعَت فجُعِلَت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى! وتأمل ما في القرآن من ذكرها، فكم عُلِّق بها من خير، وكم وُعِد عليها من خير وثواب، وكم أضيف إليها من سعادة! هذه التقوى ظلالٌ طاب العيش فيها، هذه التقوى حياة كريمة. ([1])
ومن ألطف ما ورد في تعريفات التقوى ما ذكره طلق بن حبيب حيث قال: “إذا وقعت الفتن، فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: هي أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاءَ رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نورٍ من الله مخافةَ عذاب الله” ([2])
وقد استخرج طلق بن حبيب -رحمه الله- هذا التعريف من نصوص القرآن والسنة، فقوله: التقوى هي العمل بطاعة الله: مصداقاً لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) “آل عمران:50″، وهذا في أكثر من عشرة مواضع من القرآن الكريم.
وقوله: على نورٍ من الله -أي: على بصيرة- مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) “الحديد:28”
وقوله: رجاء رحمة الله: مصداقاً لقوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) “الأعراف:156”.
وقوله: والتقوى ترك معاصي الله: مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) “البقرة:278”.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء)([3])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من اتقى الشبهات؛ فقد استبراء لدينه وعرضه) ([4]).
وقوله: مخافة عذاب الله: مصداقاً لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) “المائدة:2″، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ([5])
ومعلوم أن التقوى محلها القلب مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (التَّقْوَى هاهُنا، ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ([6])، ولا يعرف ما في القلوب إلا الله تبارك وتعالى.
إذن الآية الكريمة تنادي على أناس لا يعرفهم إلا الله تعالى؛ ليفرض عليهم فريضة لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى؛ ليوصلهم إلى نتيجة لا يعلم وجودها أو عدم وجودها إلا الله تبارك وتعالى.
وبناء على ما سبق نؤكد: أن مدرسة الصيام يتعلم فيها المسلم لكي يصل إلى الإيمان الذي سيوصله إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهي الغاية من الصيام.
قال الحسن البصري رحمه الله: يا بن آدم عملك عملَك، فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخُيلاء، وبذل المعروف، وقلَّة المباهاة للناس، وحسن الخلق([7])
[1] – أعمال القلوب – خالد أبو شادي – 1/28.
[2] – رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه” برقم (30993)
[3] – رواه مسلم (6948) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] – رواه البخاري برقم (52)، ومسلم (4094)، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] – صحيح ابن حبان، عن عدي بن حاتم الطائي برقم: 2804
[6] – أخرجه البخاري (6064) ومسلم (2564).
[7] – رواه أبو نعيم في “الحلية ” (2 /143).