توضح دراسات القيادة الحديثة أن من أهم الوظائف التي يقوم بها القائد اكتشاف مواهب الأفراد، وتوظيفها لتحقيق الأهداف.
وبذلك يستطيع القائد تطوير قدرات الأفراد على الابتكار وتحقيق الإنجازات، فكل فرد يمكن أن يقوم بمهمة تتفق مع مواهبه وقدراته.
ودراسة تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في توزيع المهام على أصحابه طبقاً لمواهبهم وقدراتهم توضح لنا أهمية دور القيادة في توظيف الثروة البشرية.
واختيار السفراء الذين يمثلون الدولة عملية مهمة تحتاج إلى رؤية وحكمة في توظيف الفرد الذي يستطيع أن يبني صورة إيجابية للدولة، ويحقق أهدافها عن طريق التأثير على الدول الأخرى، وبناء العلاقات معها.
لذلك، اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم السفراء الذين حملوا رسائله إلى الملوك والأمراء طبقاً للمواصفات التي تؤهلهم للقيام بهذه المهام.
ولقد كانت مهمة نقل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قيصر الروم مهمة صعبة تحيط بها الكثير من المخاطر، وتحتاج إلى شخصية مؤهلة للقيام بهذا العمل.
وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة دحية بن خليفة الكلبي، وعندما ندرس سيرته تتضح لنا حكمة القيادة في الاختيار، واكتشاف مواصفات الرجال وقدراتهم، وكيفية تأهيل السفراء والدبلوماسيين.
فعن عبدالله بن أبي يحيى عن مجاهد أنه قال: «بعث رسول الله دحية سرية وحده»؛ وهذا يعني أن دحية قد قام وحده بالدور الذي تقوم به سرية، وهذا يوضح شجاعة دحية رضي الله عنه وإقدامه وجرأته، وهي صفات ضرورية لمن يقوم بهذه المهمة.
فارس فصيح
وكان دحية في وقفته أمام هرقل يمثل قوة الإسلام وعزته، فقوة دحية لم تتمثل فقط في قدرته على القتال واستخدام السيف، ولقد كان مقاتلاً شجاعاً، وفارساً مغواراً، قوياً في بيانه وتعبيره عن مبادئ الإسلام، ويتميز بالفصاحة، ولذلك فإنه جمع قوة البيان والخطاب مع قوة الساعد والقلب والسلاح.
وقد أشارت الكثير من المصادر إلى إجادته للغة السريانية، وهي اللغة التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت.
كما أنه كان يتميز بالفصاحة والقدرة على البيان باللغة العربية واللغة السريانية.
كان دحية رضي الله عنه رجلاً يتميز بالجمال والوسامة والمهابة والطول، وكان وجهه شديد البياض، لذلك كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له يشير إلى اهتمامه بالتأثير النفسي على المستقبل أو الجمهور، وبالصورة الذهنية للدولة التي يمثلها السفير.
فلقد كان هذا السفير يثير الإعجاب ببهاء طلعته وقوته ومهابته.
إن المصادر تجمع على أنه من أحسن الصحابة وجهاً، وأنه كان يضرب به المثل في حسن الصورة، وفي الوقت نفسه كان دحية يتميز بقوة الأخلاق، والشجاعة، وقوة النفس والعزة.
كما عرف دحية الكلبي رضي الله عنه بصدقه، وهي صفة ضرورية للقيام بهذه المهمة، ونقل رد هرقل على الرسالة.
وهذا يفسر محاولات بعض المستشرقين التشكيك في صحة الرواية حول رد هرقل، ولذلك يمكن أن نجد مواقع على الإنترنت تحمل الكثير من الأكاذيب وتثير الكثير من الشكوك حول شخصية الصحابي الجليل دحية الكلبي، ومن الواضح أن هذه المواقع تديرها هيئات صليبية أغضبها حقيقة اعتراف هرقل بأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أحمد الذي بشر به عيسى عليه السلام.
وبعض تلك المواقع بلغت درجة من السفه والانحطاط والعداء للإسلام، وهذا يكشف حقيقة الحرب الصليبية المستمرة ضد الإسلام.
ومن الواضح أن دحية الكلبي رضي الله عنه لم يكن غامضاً -كما تدعي المواقع الصليبية- ولكنْ هؤلاء المتعصبون الصليبيون هم الجهلاء الذين أعمى التعصب والعداء للإسلام بصيرتهم.
والسؤال الذي يمكن أن نطرحه: هل يعرف المؤرخون الغربيون الحقيقة حول موقف هرقل وكبير الأساقفة، وأن كبير الأساقفة قد أسلم فقتلوه؛ ولذلك خاف هرقل على نفسه وملكه؟
إن دحية الكلبي واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاهد معه في كل الغزوات منذ غزوة «أُحد»، وشارك في تحرير الشام من الاحتلال الروماني، وكان يقود كردوساً (كتيبة قوامها ألف مقاتل) في معركة اليرموك.
لذلك، فإن الغموض هو في رؤوس الجهلاء المتعصبين الحاقدين على الإسلام، والذين يحاولون تشكيك المسلمين في دينهم.
في ضوء ذلك، فإن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تأهيل الكثير من الباحثين في علم التاريخ الذين يعيدون لها هويتها الحضارية الإسلامية بأبحاثهم العلمية التي تكشف تميز القادة المسلمين وقدرتهم على تحقيق الإنجازات الحضارية.
لماذا يغضبون؟!
ولقد كان نموذج الصحابي الجليل دحية الكلبي يثير غضب أعداء الإسلام، فلقد تمكن من القيام بدور سرية وحده وإنجاز مهمة نقل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.
ولذلك، يجب أن نعمل لإعداد جيل من الذين يجيدون الحوار ونقل المعرفة إلى الغرب، وشخصية الصحابي الجليل دحية الكلبي يمكن أن تكون ملهمة لنا في عملية إعداد وتأهيل هذا الجيل.
لقد كان إيمان الصحابي الجليل دحية الكلبي بالله تعالى، وبأنه يقوم بمهمة عظيمة -هي نقل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم- هو مصدر قوته، ومن يريد أن يبلغ رسالة الله سبحانه إلى البشرية يجب أن يتميز بالصدق والشجاعة والإيمان والقوة.
إن أكثر السمات التي أهَّلت الصحابي الفارس الفصيح دحية الكلبي للقيام بهذه المهمة العظيمة هي الإيمان بالله تعالى الذي ملأ قلبه قوة، ولا شك أن الجمال والبهاء والهيبة نعمة أنعم بها الله عز وجل على هذا الصحابي الجليل لتمكنه من التأثير على هرقل والرومان، لكن جمال أخلاقه وصدقه وإيمانه وشجاعته من أهم السمات التي أهَّلته للقيام بوظيفته الحضارية.
إن الإسلام يحتاج إلى سفراء مثل دحية الكلبي يدرسون تاريخه، ويعملون لتأهيل أنفسهم للقيام بدور حضاري جديد.