ولعصرنا خصائص تميزه عن غيره يجب أن ندركها ونستوعبها، بما فيها من إيجابيات وسلبيات.
فهو عصر العلم والتكنولوجيا.
وهو عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب.
وهو عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة والتطورات الهائلة.
وهو عصر التضام والالتحام والظهور في كتل كبيرة.
وهو عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل.
وهو عصر اقتحام المستقبل، وعدم الاكتفاء بالواقع فضلاً عن الانكفاء على الماضي.
وهذه كلها من إيجابيات العصر وإنجازاته، إذا صحت الأهداف، ووضعت الضوابط.
ولكن للعصر جوانب أخرى اقتضتها سُنة الله في هذا الكون، حين تمتزج فيها الخيرات بالشرور، والمنافع بالمضار، واللذات بالآلام.
فهو عصر غلبة المادية والنفعية.
وهو عصر تدليل الإنسان بإشباع شهوته.
وهو عصر التلوث بكل مظاهره.
وهو عصر الوسائل والآلات، لا عصر المقاصد والغايات.
وهو عصر القلق والأمراض النفسية.
المعاصرة بين الجبر والاختيار
وإذا كان لعصرنا سلبياته كما له إيجابياته، فهل من مقتضى المعاصرة أن نأخذ العصر بكل ما فيه، باعتباره وحدة لا تتجزأ، أم لنا حق الانتفاء والتخير؟
وهذا يقتضينا أن نسأل هنا سؤالاً مهماً: ما هو العصر؟ وما موقفنا منه؟
أهو قدر غالب لا مفر من الخضوع له والانحناء لجلاله، ولا مفر لنا من أن نأخذه بعجره وبجره، وخيره وشره، وحلوه ومره؟
أم من حقنا أن نأخذ من العصر أحسنه وأمثله، وندع ما فيه مما لا يلائم عقائدنا وشرائعنا وقيمنا؟
إن “العصر” –في واقع الأمر– مثل “الوطن”، هو الناس الذين يعيشون فيه، بأفكارهم ومعارفهم وأعرافهم ومشاعرهم، وأخلاقهم وأعمالهم، وأنظمتهم وثقافاتهم، بما فيها من صواب وخطأ، ومن استقامة وعوج، ومن خير وشر، ومن نفع وضر.
ومن حق الناس –بل من واجبهم– أن يميّزوا بين الصواب في الفكر، والخير في السلوك، والنافع من العمل، في العصر، وبين الخطأ في الفكر، والشر في السلوك والضار في العمل، مما جاء به العصر، فيحرصوا على الجانب الأول، ويأخذوا به، ويجتهدوا في اجتناب الجانب الآخر ما وسعهم الجهد.
ولسنا هنا مع “الجبرية الزمانية” التي تعتبر الإنسان “وعاء” يملؤه العصر بما يشاء، وإن لم يشأ الإنسان.
كما أن هناك “جبرية مكانية” ترى الإنسان “مسيراً” لبيئته الجغرافية، هي التي تحدد شخصيته، وتوجه فكره وسلوكه.
ونحن نرفض “الجبريات” كلها، التي تعتبر الإنسان مسيراً لا مخيراً، ومقهوراً لا مريداً، سواء في ذلك “الجبرية الدينية” القديمة التي تجعل الإنسان كريشة تحركها رياح الأقدار، أم “الجبرية الاجتماعية” التي ترى الفرد دمية يحرك خيوطها المجتمع، أم “الجبرية السياسية” التي تشيع الآن وتجعل مجتمعاتنا كلها “أحجاراً على رقعة الشطرنج”.
إن الإنسان يتأثر –ولا ريب– ببيئته الخاصة والعامة، المادية والثقافية، كما يتأثر بعصره وزمانه، ولكنه لا يفقد إرادته واختياره أمام هذه المؤثرات، فقد منحه الله من القوى والملكات ما يجعله قادراً على أمانة المسؤولية وتقرير مصيره بنفسه وصنع يده؛ (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام: 104)، (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: 7).
ومن المعلوم أن من الناس من يعيش خارج عصره، فهو يهرب منه ليحيا في الماضي القريب أو البعيد، وهربه من العصر إما لنفوره منه وكراهيته له، لما يشتمل عليه من أمور تهدد كيانه الاعتقادي أو الفكري أو العملي، وإما لخوفه منه، وضعفه أمام مغرياته وعوائقه، وربما بالغ في هذا الخوف لجهله بحقيقة العصر، أو ضعف معرفته به، أو فهمه على غير وجهه، فلا يجد أمامه إلا العزلة عنه، بدل المواجهة التي لا يملك أسلحتها.
كما أن من الناس من يندمج في العصر إلى حد الذوبان فيه، فهو لا يقف من العصر موقف الفاحص المنتقي، الذي يأخذ ويدع، بل يأخذه كله، وينزل في بحره إلى الأعماق، إلى حد قد يغرق فيه، فلا يجد شاطئاً، ولا قارباً للنجاة.
والخير في الوسط الذي يعرف العصر، ويحيا فيه، آخذاً أحسن ما فيه، ومنتفعاً بكل جوانبه الإيجابية الخيرة، معرضاً عن الجوانب الأخرى التي تضر ولا تنفع.
ليس العصر هو الغرب
ولا بد هنا من إيضاح حقيقة لها وزنها وقيمتها، وهي أن العصر ليس هو الغرب.
فمن الناس من يعتبر أن عصرنا هو الغرب بكل ما فيه؛ من خير وشر، ورشد وغي، وهدى وضلال، واستقامة وانحراف، وأننا إذا شئنا أن نعيش عصرنا حقاً، يلزمنا أن نحيا حياة الغربيين بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.
ولكن البحث المتعمق المنصف يرينا أن الغرب –وإن كان هو المهيمن في عصرنا على الحياة، وكانت ثقافته هي الثقافة السائدة والغالبة على العالم– ليس هو كل العالم، ولا كل العصر.
فهناك العالم الإسلامي –على امتداده وسعته– له ثقافته الخاصة، ومعارفه وقيمه المتميزة، ورغم سطوة الغرب الساحقة في عالم الثقافة، مثل سيطرته على عالم السياسة، ورغم تأثر العالم الإسلامي بالغرب تأثراً هائلاً في كل أنماط الحياة؛ يظل العالم الإسلامي متميزاً عن غيره من العوالم الأخرى؛ كتابية كانت أم وثنية.
وهناك عالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته، وطقوسه واتجاهاته، وما فيها من حقائق وأساطير، تكون جزراً ثقافية أخرى لم تستطع الديانات السماوية الكبرى أن تؤثر فيها التأثير الثقافي المطلوب.
ومن هنا نقول: إن العصر أوسع من الغرب، برغم تأثيره البالغ عليه.
كما نقول أيضاً: إن الغرب ليس كله شراً ولا ضلالاً، فكم فيه من علم نافع، وكم فيه من عمل صالح، وكم فيه من خلق كريم، وكم فيه من إنجازات هائلة، وإمكانات ضخمة، يمكن توظيفها لصالح الإنسان؛ كل إنسان.
لقد أقر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعض الأحكام والتقاليد التي كان معمولاً بها في الجاهلية، حيث لم يجد فيها ما يخالف ما جاء به الإسلام.
وأقر أشياء أخرى مع بعض التعديل لتتفق مع هداية الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً، ونقل أشياء من الأمم الأخرى، ولم ير في ذلك بأساً، مثل أسلوب حفر الخنادق، ونصب المنجنيق في الحرب، ولم تكن من مكايد العرب في حروبهم.
ونوه الرسول عليه الصلاة والسلام بحلف اشترك فيه في صغره، وهو في الجاهلية، لرد المظالم، ونصرة المظلوم، وقال عنه: “لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت”.
وقال عليه الصلاة والسلام: “أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل”.
وإنما قالها لبيد في الجاهلية قبل أن يسلم، وأشاد عليه الصلاة والسلام بخطبة سمعها قبل البعثة من قس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ.
لا حرج علينا، إذاً، أن نقتبس من الغرب ما ينفعنا، وما يليق بنا، ويتلاءم مع قيمنا وثقافتنا، وما يؤكد المبادئ التي دعا إليها ديننا.
وقد توجب علينا عملية الملاءمة هذه أن نعدل ونحور -بالحذف والإضافة- فيما نقتبسه حتى يغدو صالحاً لنا، متوافقاً مع أصول شريعتنا، ونظام حياتنا، وظروف بيئتنا، وقد يصبح بهذا التعديل والتحوير جزءاً من وجودنا المعنوي، وكياننا الثقافي، ويفقد جنسيته الأولى.
لا جناح علينا أن نأخذ من الديمقراطية وضماناتها وعناصرها ما يؤكد مبدأ الشورى ومبدأ النصيحة والمحاسبة للحاكم، وحق عزله إن جار عما بويع عليه.
وأن نأخذ من نظام القضاء والمحاكمات الغربي، وأنواع المحاكم ودرجاتها، ما يؤكد مبدأ العدل الذي فرضه الإسلام وأقام عليه الحكم.
وأن نأخذ مما ابتكره الغرب من أدوات للثقافة؛ كالسينما والمسرح والتلفاز والإذاعة، على أن نفرغ فيها المضمون الذي يتناسق معنا، ويدعم هويتنا، ونضع لها من الشروط والضوابط ما يجعلها أدوات بناء لا معاول هدم.
وكل ما لدى الغرب من وسائل وآليات لا بأس بأخذه منه، إذا استخدمناه فيما يخدم أهدافنا ومقاصدنا، إذ لا حكم للوسائل إلا باعتبار مقاصدها، وقد يرتقي أخذها واستيرادها إلى درجة الوجوب والفرضية لا مجرد الجواز والمشروعية، إذا كانت وسيلة لازمة ومتعينة لأمر واجب، وفقاً للقاعدة الشهيرة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
وليس هذا خاصاً بالوسائل والأدوات المادية، بل تشمل المعارف والأفكار النظرية أيضاً.
وقد نبهتُ في بعض ما كتبتُ من قبل أن رفضنا لبعض الفلسفات والنظريات الكلية التي ظهرت في الغرب، وكان لها أتباع وأنصار، كما كان لها خصوم وأعداء مثل نظرية “دارون” في النشوء والارتقاء، أو نظرية “دور كايم” في نشأة الدين وتفسير الظواهر الاجتماعية، أو فلسفة “فرويد” في التحليل النفسي وتفسير السلوك الإنساني، أو فلسفة “ماركس” في التفسير المادي للتاريخ.. رفضنا لهذه النظريات في فلسفتها الكلية، واتجاهها العام، لا يعني بالضرورة أن كل ما قاله هؤلاء باطل، فقد نجد عند كل واحد من هؤلاء باطلاً، فقد نجد عند كل واحد من هؤلاء في مجاله النظريات العميقة، والتحليلات الدقيقة والآراء الرشيدة، ما ينبغي لنا أن ننتفع به ونفيد منه لفكرنا وثقافتنا، تطبيقاً لما قاله سلفنا: “خذ الحكمة من أي وعاء خرجت”.
وقد حكى القرآن على لسان بعض المشركين كلمات حكيمة تتلوها الأجيال في كتاب الله، وتستضيء بها، وإن كان قائلها غير مؤمن، كما في قوله على لسان ملكة سبأ: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) (النمل: 34).
فبينت ما يفعله الفتح الملوكي (الاستعماري) بالبلاد والعباد، وقد قالت ذلك قبل أن تسلم مع سليمان لله رب العالمين.
ومثل ذلك قول امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (يوسف: 53).
وقد روى أبو داود عن الصحابي الفقيه معاذ بن جبل: “إن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، ولما قال له بعض أصحابه: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات (وفي بعض الروايات: المشتبهات) التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلقَّ الحق إذا سمعته (أي ولو من منافق) فإن على الحق نوراً”.
استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها
ومن الدعوات المشبوهة هنا ما ينفق له بعض الناس من وجوب فتح النوافذ للثقافة الغربية بكل ما فيها من صواب وخطأ، ورشد وغي، بحجتين يحتجون بهما:
الأولى: أن هذه الثقافة ثقافة عالمية، وليست ثقافة غربية، فإذا لم نفتح لها الأبواب والنوافذ على مصاريعها، تخلفنا عن ركب العالم المعاصر، وبتنا في عزلة قاتلة عن مسيرته الثقافية المتطورة.
والثانية: أن الثقافة أو الحضارة لا تتجزأ، فهي لا تعطيك بعضها، حتى تأخذها كلها، فأجزاؤها مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعضها مع بعض، لا يجوز أن نأخذ الجانب المادي أو العلمي، دون الجانب الأدبي، ولا يسوغ أن نأخذ بعض الجانب الثقافي دون بعض.
دعوى عالمية الثقافة
أما الشبهة الأولى، فهي مغالطة مكشوفة، فمن المقرر المعلوم لدى الدارسين أن الثقافة غير العلم المحض، القائم على الملاحظة والتجربة، فهذا العلم التجريبي عالمي حقاً، فقوانين الفيزياء والكيمياء والفلك والتشريح والطب وغيرها قوانين عامة، لا تتأثر بدين ولا وطن ولا قوم، إلا في عرضها وتدريسها، وربطها بالفلسفة العليا للكون كله، وللوجود كله، ووضع الضوابط لتوظيفها فيما يخدم الأهداف العليا للإنسان، ولا يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية.
أما الثقافة فخصوصيتها ثابتة ومؤكدة، لأنها ليست مجرد معارف ذهنية مجردة، بل هي معارف وإدراكات، ممزوجة بقيم واعتقادات، مجسدة في أعمال وسلوكيات، تعبر عنها شعائر وآداب وفنون تقرأ وتسمع، وتحس وترى.
وهي تتأثر في ذلك كله بالدين واللغة، والبيئة، والمواريث الثقافية والحضارية، والتفاعل مع الآخرين إيجاباً أو سلباً.
ولهذا تختلف ثقافة الشعوب بعضها عن بعض، فثقافة أهل الشرق غير ثقافة أهل الغرب، وثقافة أهل الإلحاد غير ثقافة أهل الدين، وثقافة أهل الكتاب غير ثقافة الوثنيين، وثقافة الحضر غير ثقافة البدو، وثقافة العرب غير ثقافة العجم، وثقافة المسلمين غير ثقافة غيرهم من أهل الملل الوضعية أو السماوية.
ولو نظرنا إلى الغرب، لوجدنا ثقافة البلاد الليبرالية تختلف كثيراً عن البلاد الشيوعية، ثم وجدنا الليبراليين يتفاوتون فيما بينهم، فالثقافة اللاتينية غير السكسونية، غير الجرمانية، وهذه كلها غير الثقافة الأمريكية.
صحيح أن هناك قدراً مشتركاً بينها؛ لاتفاقها في الدين المسيحي، والاستمداد من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وتشابه البيئة، ولكن يبقى لكل منها تميزه ومشخصاته.
أما المسلمون -والعرب خاصة- فلهم ثقافتهم الخاصة التي تعبر عن كينونتهم الحضارية المتميزة، التي اتسمت بخصائص قلما تتوافر لغيرها، تحدثنا عنها في موضعها.
[1] العدد (1091)، ص 48-49 – بتاريخ: 26 رمضان 1414هـ – 8 مارس 1994م.