مع أن الأمر تخليق وليس خلقاً، ومع أن العالم كله ما زال يرصد التجربة ويتابع مسيرتها العلمية وتوابعها الأخلاقية، فإن فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي قد أبدى تخوفه من فتح باب الاستنساخ الذي قد لا تفلح البشرية في سده، مستنداً إلى القاعدة الشرعية “سد الذرائع” الذي قد يؤدي إلى أمور منكرة ومفاسد للناس، غير أنه عدَّد ثلاثة اعتبارات في القضية، وهي: خلق الله تعالى للناس متمايزين، وخلق الله للكون كله أزواجاً، وجعله سبحانه وتعالى الأسرة أساساً لحياة المجتمع، غير أن فضيلته رأى إمكانية هذه الاستفادة من هذه التوجيهات العلمية في علاج بعض الأمراض المستعصية أو الأمراض الوراثية أو علاج بعض أسباب العقم.
وكان فضيلته قد بدأ تصريحاته لـ “المجتمع” بشرح وبيان معنى الاستنساخ، فقال: إنه استنساخ نُسَخ عدة من كائن حي لشخص واحد، وهو أمر جربه الناس منذ عرفوا ما سمي بالهندسة الوراثية عندما اكتشف الإنسان الذي علّمه الله ما لم يعلم أن هناك عوامل وراثية هي التي تتحكم في الإنسان وتحدد شكله وصورته وهيئته وذكاءه وقوته الجسمية وطوله وبياضه أو سواده.. “الجينات” التي تحمل عوامل الوراثة من الأب ومن الأم ومن الجد ومن الجدة ومن الفصيل ومن النوع، فمنذ اكتشاف هذه الأشياء وهم يطبقونها في عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات بأطر مختلفة وضوابط محددة، ولكنهم في الآونة الأخيرة وفي إطار الثورة البيولوجية (ثورة علم الأحياء) وصلوا إلى استنساخ في علم الحيوان، وهو ما نُشر من استنساخ تلك النعجة “دولي” الإسكتلندية، وشرح فكرة ذلك، فقال: إنه بواسطة خلية من خروف ذكر، وضع في بويضة منزوعة النواة من الأنثى (البويضة لا تحمل العوامل الوراثية) وذلك بمعالجة معينة، ثم وضعت البويضة وبها الخلية في رحم الأنثى (الشاة) وجيء –نتيجة لذلك– بنسخة طبق الأصل من النعجة أو الخروف الذي أخذ منه تلك الخلية، وقالوا: إن هذا يمكن أن يطبق في عالم الإنسان؛ خلية من ذكر تعالج معالجة معينة وتوضع في بويضة من امرأة منزوعة النواة وعوامل الوراثة فيها، ونضع البويضة بعد ذلك في رحم امرأة فتأتي بنسخة طبق الأصل من الذكر الذي أخذت منه الخلية، ويمكن أن تخلق من هذا الشخص آلاف الأشخاص.
يُخلّق ولا يخلُق
ونقل د. القرضاوي تخوف علماء القانون والاجتماع والأخلاق والتربية، وعلماء الدين من نصارى ومسلمين، من خطورة هذا الأمر، فقال: ماذا لو تمادى الإنسان وخلق إنساناً بهذه الصورة؟ وشرح الفرق بين الخلق والتخلق أو التكوين، يستطيع الإنسان بواسطة ما خلق الله، فالإنسان لم يخلق المادة الحية، ولم يخلق الخلية، ولم يخلق البويضة، فالله هو الخالق، لكنه استطاع بما خلق الله أن يتوصل إلى هذه النتائج، هل يصل العبث بالجينات الوراثية وهندستها إلى هذا الحد؟ وهل يقبل الشرع ويقبل الدين والعقائد السماوية؟ بل هل تقبل القيم الأخلاقية والأوضاع الاجتماعية هذا التصرف؟
وأجاب: لا.. إن الإسلام يفتح ذراعيه للتقدم العلمي، ونحن نعتبر التقدم العلمي فريضة وضرورة؛ فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، ولا بد للمسلمين الذين كانوا سادة الدنيا لعدة قرون أن يتبوؤوا في هذا المجال، فقد كانوا معلمي العالم، مشيراً إلى المراجع العلمية للعالم باللغة العربية وإليها يلجأ طلاب العلم، مما يؤهلهم اليوم ليكونوا لهم مكانهم.
وقال: نحن نرحب بالعلم، ولكن أن يكون العلم في خدمة الإيمان والأخلاق والقيم والإنسان، لا أن ينطلق سائباً بلا معالم تهديه أو ضوابط تقصره، فهنا يكون الخطر.
واستشهد بسيدنا سليمان في تمثيله للعلم في خدمة الإيمان: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل)، والحديث عن عرش ملكة سبأ بلقيس من اليمن، ولما رأى سليمان العرش مستقراً عنده: (قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 40)، وهذا منطق الإيمان، كما استشهد فضيلته بقصة ذي القرنين وإقامته للسد العظيم، وقال: إن شأن العلم في الحضارة الإسلامية هو أن يكون مُعمّراً لا مخرّباً ولا مدمراً، ولأن العلم في الحضارة الحديثة لا يرتبط بالأخلاق ولا بقيم الإيمان فقد ينفع وقد يضر، كما رأينا في الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية وأدوات التدمير.
اعتبارات عدة في القضية
ثم عدّد فضيلته عدة اعتبارات في قضية الاستنساخ:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متمايزين: فقد خلق الكون على أساس التنوع واختلاف ألوانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر).
العلماء الذين يعرفون أسرار هذه الكائنات هم الذين يخشون الله؛ لأن الذي يعرف الله في آياته يخشاه سبحانه وتعالى، ووصل إلى أنه لا يجوز أن نجعل الناس متشابهين؛ نسخاً مكررة، فتفسد الحياة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) (الروم: 22)، ورأى اختلاف الألسنة كاختلاف البصمة الصوتية، واختلاف الألوان هو اختلاف الصور التي تميز كل إنسان عن غيره، وقال: إذا استطاع هؤلاء تكوين أناس متشابهين فكيف يتمايز الناس، في التعليم، والإجرام، والزواج، وقال: ستفسد الحياة، فالتمايز جعل الله به لكل إنسان شخصيته المستقلة على أساسها يخاطب ويحاسب ويثاب ويعاقب ويتحمل المسؤولية في الدنيا والآخرة، وذكر فضيلته أن ذلك يُعرّض الناس للأخطار، فإذا أصيب واحد بمرض أو فيروس أصيب الجميع، فمرض واحد يقضي على القطيع البشري –لو تم– كله، ويمكن لجهات بعض الشر أن تستغل هذا، فتصنع من بعض الأشرار نسخاً متكررة.
الزوجية وتدمير الحياة
وعن الاعتبار الثاني: قال د. القرضاوي: إن الله خلق الكون كله أزواجاً، كما قال تعالى: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) (النبأ: 8)، وقد أثبت العلم الحديث أن كل النباتات بل كل الكائنات –وليس الإنسان والحيوان فقط– فيها ذكورة وأنوثة، والكهرباء والذرة والإلكترون فيها موجب وسالب، الحياة كلها كذلك، وهذا ما قرره القرآن في هذه القاعدة الكونية: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات: 49)، فهؤلاء يريدون إبطال هذه القاعدة (قاعدة الزوجية في الكون وفي الحياة)، واعتبر ذلك تدميراً للحياة ومخالفة لفطرة الله، وأشار إلى محاولة ذلك من قبل قوم لوط الذين وصفهم القرآن بالجهل والإسراف والعدوان والإفساد والإجرام، وبكل رذيلة ونقيصة: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {165} وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء)، وقد عاقبهم الله عقوبتين؛ فَقَلَب قريتهم عليهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مُسَوَّمة عند ربك.
الأسرة أساس المجتمع
وذكر د. القرضاوي، في بيان اعتباره الثالث، أن الله جعل الأسرة هي الأساس لحياة المجتمع الإنساني، لا بد أن يتربى الطفل في ظل أسرة (أبوَّة وأمومة) يعيش في بيت يحنو عليه ويرعاه، فالطفولة الإنسانية أطول أنواع الطفولة في الحيوانات، فمن يرعى هذا الطفل أثناء هذه السنين؟ إذا لم يكن له أب أو أم، ويأتي من خلية توضع في أي مكان، وهم يفكرون الآن في عمل رحم صناعي لتوضع فيه هذه الخلية! وهذا خطل كل الخطل، فالأمومة معاناة وليست إعطاء بويضة لهذا الرحم الصناعي، فهي معايشة لهذا الجنين تسعة أشهر.
وأضاف: جعلت الأديان كلها الزواج أساس الأسرة، وهؤلاء يلغون الزواج من حياة الإنسان فيصبح الناس حيوانات، ولم يعودوا أناسي وبشراً تحكمهم شرائع وقيم، وهذا كله إفساد وتدمير للحياة التي لا بد لها من أسرة وزوجين أو أبوين، ولا بد أن ينشأ الطفل في ظلال هذه الأسرة، وفي رحابها، ويتعلم منها؛ “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وإذا تُرك الحبل لاضطرب نظام هذا الكون.
ومن أجل هذا نقف ضد هذا التوجه الخطير الذي يسعى إليه بعض العلماء، وكثير من أهل العلم الإحيائي البيولوجي يقفون ضد هذه التوجيهات، ونحن نقول: إذا كان يمكن أن نستفيد من هذه التوجيهات في علاج بعض الأمراض الوراثية، وعلاج بعض أسباب العقم، فلا مانع من ذلك، ولكن بشرط ألا يكون ذلك فتحاً لباب خطر، وإذا خفنا أنه إذا فتح هذا الباب فلن يسد، فالأولى بنا أن نسده من أول الأمر، فعندنا في الشرع قاعدة تسمى قاعدة “سد الذرائع”؛ وهي لو أن هناك أمراً مباحاً، ولكنه إذا فتح الباب له سيؤدي إلى أمور منكرة، ومفاسد للناس؛ نمنع هذا الأمر المباح سداً للذريعة إلى الفساد؛ (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108). وقال: إننا أمام أمر خطر، فنحن لا نعرف كل ما يمكن أن يتمخض عنه هذا الأمر، وما ذكرناه أشياء هي مؤشرات ولكن لا نستطيع التكهن بما يمكن أن يأتي به هذا الأمر لو فتح الباب على مصراعيه، إنه قد يؤدي بالبشرية ويدمرها، ويدمر الإنسان نفسه بنفسه: (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس: 24).