استعرض الشيخ القرضاوي في حلقتين سابقتين كيف كانت الأمة في حاجة إلى دعوة إسلامية جديدة لتتولى مهمة البعث والإنقاذ، ثم بيَّن عناصر التميز ووضوح الشخصية في حركة الإخوان، وهو يكتب هذه الحلقة عن “شخص الإمام البنا.. القائد المنتظر”.
من سنن الله تعالى أن يهيئ لكل مرحلة رجلها الذي يناسبها، وأن يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدّد لها دينها، ويعيد إليها حيويتها.
وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: لا يخلو الأمر من قائم لله بالحجة.
وقد لاحظ العلاَّمة أبو الحسن الندوي في كتابه القيّم “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” أن التاريخ الإسلامي في كل مرحلة يبرز فيه رجال يحتاج إليهم الموقف، فيسدون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويقومون بالواجب المطلوب لزمانهم ومكانهم في إيقاظ الأمة، وترميم ما أصاب البلى أو التصدع في بنيانها.
قد يكون الرجل المنشود إماماً أعظم كعمر بن عبدالعزيز، وقد يكون أميراً أو قائداً عسكرياً مثل نور الدين محمود، أو صلاح الدين، وقد يكون إماماً فكرياً أو دعوياً مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مريباً روحياً مثل عبدالقادر الجيلاني، وقد يكون مجدداً فقهياً وتربوياً وإصلاحياً مثل أبي العباس ابن تيمية، فكل واحد من هؤلاء جدَّد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة.
وقد كان وضع العالم الإسلامي عامة، ووضع مصر والعالم العربي خاصة، يحتاج إلى رجل ذي فكر ثاقب، وحس مرهف، وإيمان دافق، وإرادة صُلبة، يشعر بما تعانيه الأمة من أمراض وآلام، ويقدر على تشخيص الداء، ووصف الدواء، ويصبر على متابعة مريضه، حتى ينتقل به من مرحلة السقام إلى مرحلة العافية، ومنها إلى مرحلة القوة.
كان هذا الرجل المنشود أو القائد المنتظر، هو حسن البنا.
لقد هيَّأ الله له من الأسباب –منذ نعومة أظفاره– ما يرشحه للمهمة المطلوبة.
أب صالح مشغول بالعلم والعمل معاً، فهو من المشتغلين بعلم الحديث، وله فيه إسهام يقدره العلماء، يذكر فيشكر، وهو ممن يكسبون عيشهم بالعمل في إصلاح الساعات، أو تجليد الكتب، ولذا اشتهر بالشيخ الساعاتي.
وبيئته ريفية متدينة محافظة، بعيدة عن صخب المدن، وما ابتليت به من تقليد الفرنجة، وما داخل عليها من مفاهيم وتقاليد مستوردة من خارج دار الإسلام.
وأساتذة صالحون، أحاطوا الصبي بمزيد من الرعاية، لما لمسوا فيه من ذكاء وتفوق، ومن غيرة وحماس، ومن أدب وأخلاق.
وطريقة صوفية تعرف بـ “الطريقة الحصافية” أيقظت حاسته الروحية، وعلمته شيئاً من أدب الطرق، وأخلاق المريدين، ولكنها لم تشبع نهمه، ولم يجد فيها ضالته.
وجمعيات دينية كان ينشئها أو يشارك فيها، لمقاومة الشر، أو منع المحرمات، ولكنها أيضاً كانت دون طموحه، إلا أنها غرست فيه الروح الجماعية، والعمل الجماعي.
وحفظ الصبي القرآن، وانتقل من مدينته الصغيرة “المحمودية” إلى مدينة أكبر هي “دمنهور” عاصمة إقليم البحيرة، ليتلقى تعليمه في “مدرسة المعلمين” بها.
ثم كانت النقلة الكبرى بذهابه إلى القاهرة، وقد صلب عوده، وتفتح فكره ووجدانه، واتسعت قراءته ومعارفه، وعرف بعض ما يعانيه وطنه مصر، وما تعانيه أمته الكبرى، وكيف تواجه هذه الأمة أزمتها الروحية والعقلية والاجتماعية، ومن لها من الرجال الذين يحملون عبئها، وقد قابل من قابل من العلماء وكبار القوم، ولكنه لم يجد الاستجابة، إلا من القليلين، وكان يشعر في أعماقه أنه قادر على أن يفعل شيئاً، وقد سأله أحد شيوخه في “دار العلوم” عن أحسن بيت أعجبه في معلقة طرفة بن العبد، فقال له:
إذا القومُ قالوا مَن فَتى؟ خِلتُ أنّني
عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ
فأثنى عليه أستاذه، وعرف علو همته، وكان كثيراً ما يتمثل بقول أبي الطيب المتنبي، كما سمعت من الشيخ الغزالي:
يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسْمى!
ريتشارد ميتشل
يصف الكاتب الأمريكي “ريتشارد ب ميتشل” هذه الفترة –فترة الانتقال إلى القاهرة– وأثرها في مسيرة حسن البنا، وفي توجهه، فيقول: “وافق وصول البنا إلى القاهرة فترة الغليان السياسي والفكري الشديد الذي ميَّز العشرينيات في مصر، فنظر إلى ذلك المشهد بعين القروي المتدين”، واستخلص ما اعتبره مشكلات جدية، وهي التنازع على حكم مصر بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين للسياسيين، والجدل السياسي الصاخب وما نتج عنه من الفرقة التي أعقبت ثورة 1919م، والدعوة إلى الإلحاد والإباحية التي كانت تحيط بالعالم الإسلامي، ومهاجمة الأعراف المستقرة والمعتقدات، التي ساندتها “الثورة الكمالية” بنبذها الخلافة والخط العربي، وهي مهاجمة تم انتظامها في حركة “التحرر الفكري والاجتماعي” لمصر، ثم التيارات غير الإسلامية بالجامعة المصرية التي أعيد تنظيمها آنذاك، التي بدا أنها تستمد إلهامها من الفكرة القائلة: إن “الجامعة لا يمكن أن تكون جامعة علمانية ما لم تثر ضد الدين، وما لم تحارب الأعراف الاجتماعية المستمدة منه”، يضاف إلى ذلك الدهريون والتحرريون من رواد الندوات الأدبية والاجتماعية، ثم الجمعيات والحفلات والكتب والصحف والمجلات التي روجت الأفكار التي كان هدفها الوحيد إضعاف أثر الدين.
وكان رد فعل هذه الصورة على البنا ونظرائه في التفكير ما عبر عنه بقوله: ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليها في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء.
ما أن وصل البنا إلى القاهرة حتى قام ببعض الاتصالات مع أتباع طريقته الحصافية، ولكن سرعان ما تبين له أنها غير مجدية، وفي عامه الثاني التحق بمجموعة دينية أخري هي “جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية” التي عنيت بإلقاء محاضرات في موضوعات إسلامية.
ولكن كان ذلك أيضاً غير كاف لمواجهة مشكلة الفجوة التي بدت له تفصل بين المسلمين والعقيدة وتعاليمها.
وهكذا انبعثت خطوته التالية من مخاوفه تلك ومن اقتناعه المتزايد بأن “المسجد” وحده لا يكفي لنشر العقيدة بين الناس، وبالتالي قام بتنظيم مجموعة من طلبة الأزهر ودار العلوم الراغبين في التدريب على مهمة “الوعظ والإرشاد”، وبعد مدة وجيزة دخل هؤلاء المساجد واعظين، وأهم من ذلك أن طريقتهم في الوعظ قد لاقت نجاحاً كبيراً فيما بعد، إذ اتبعوا سبيل الاتصال المباشر بالناس، في أماكن اجتماعاتهم العامة كالمقاهي والمجتمعات الشعبية الأخرى، قاصدين بذلك تعزيز الفكرة الإسلامية ونشرها من جديد.
اهتمام البنا بمشكلة ابتعاد “الشباب المتعلم” عن الحياة الإسلامية حفزه إلى طلب المشورة ممن يكبرونه من رجال الدين وغيرهم، وكثيراً ما تردد على المكتبة السلفية التي كان يديرها آنذاك محب الدين الخطيب، كما جالس رشيد رضا السوري الذي يعتبر وارث مشعل محمد عبده ومحرر مجلة “المنار”، كما أصبح معجباً مخلصاً بفريد وجدي، وأحمد تيمور باشا، إذ رأى في هؤلاء أنصاراً للقضية الإسلامية.
قلق روحي
وأخيراً، حمل مخاوفه من هذا الموقف إلى مشايخ جامعة الأزهر، وهو عماد الفكر الإسلامي، وانتقد بمرارة معارضتهم غير الفعالة واستسلامهم الواضح للتيارات التبشيرية والإلحادية التي مزقت المجتمع الإسلامي، لقد أحس البنا بأن وقت العمل قد حان، وجادل عن ذلك، وقد أرهف حسه ما اكتسبه من خبرة في بدء حياته ليشعر بهذا الأمر يلح عليه ويدفعه، حتى إنه ظل بقية عمره يحمل ذكريات مؤلمة عن القلق الروحي العميق الذي غمره هذه الفترة من حياته في القاهرة، حينما اتصل بالرسميين من رجال الدين، وحينئذ بدأ يرى بوضوح نوع “العمل” اللازم لإنقاذ المجتمع الإسلامي، ودوره في هذه المجهودات “العملية” الموجهة نحو تحقيق هذه الغاية، وفي عامه الأخير بدار العلوم طُلب من صفه أن يكتب كل طالب مقالاً في الموضوع التالي: “اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك وبيِّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها”.
بدأ البنا بقوله: “أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم”، واستطرد مقرراً أن خير ما يتحقق به هذا الهدف هو إحدى وسيلتين؛ الأولى: “طريق التصوف الصادق الذي يتلخص في الإخلاص والعمل لخدمة الإنسانية”، والثاني: “طريق التعليم والإرشاد الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس”.
ثم أضاف البنا: “وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية، والفلسفة المادية والتقليد الفرنجي، بعدوا عن مقاصد دينهم، ونتيجة لذلك ورث الشباب عقيدة فاسدة، وعمَّهم شك وحيرة، بدَّلا الإيمان إلحاداً”.
رأى البنا في موقفه ذلك أن رسالته في الحياة هي قلب هذه التيارات، وأن عليه لتحقيق ذلك أن يصبح “معلماً مرشداً” واهباً نفسه للأطفال أطراف النهار، ولآبائهم آناء الليل، حتى يلقنهم جميعاً “أهداف الدين ومصادر سعادتهم ورفاهيتهم في الحياة”.
أنهى هذا الشاب المتفاني دراسته بدار العلوم في صيف عام 1927م وهو في سن الحادية والعشرين، وسرعان ما واجه احتمال الالتحاق بإحدى البعثات السنوية الحكومية للدراسة بالخارج، ولكنه لسبب غير معلوم عدل عن ذلك، وقبل التعيين في السلك المدرسي بمصر، وكانت مهمته تدريس اللغة العربية في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية بمدينة الإسماعيلية بمنطقة القناة، وقد انتقل إلى منزله الجديد ووظيفته الجديدة في 19/9/1927م، وظل في السلك المدرسي حتى استقالته عام 1946م؛ أي تسعة عشر عاماً.
التأسيس
بدأ البنا يقوم بدور نشط في حياة مجتمع الإسماعيلية بجانب قيامه بواجباته الأساسية في المدرسة، وكان المسجد والمدرسة الطريقتين الأساسيتين اللتين سلكهما البنا للتعرف إلى الهيئات الدينية والشخصيات المهمة بالمدينة، وفي وقت قصير، وكما وعد في مقال تخرّجه كان لا يضطلع بأعباء حصصه اليومية فحسب، بل أخذ يقوم بتعليم آباء التلامذة أثناء الليل، وكان غالبية هؤلاء آنذاك من العمال، وصغار التجار، وموظفي الحكومة، وعاود البنا استخدام “المقاهي” على غرار ما استخدمها في القاهرة، لاجتذاب مستمعيه، بجانب المدرسة والمسجد، وكان منهجه أن يخطب في الناس، ويلحظ من تأثر بقوله، فيدعوهم في جماعات قليلة إلى مكان آخر، حيث يعلمهم ويعظهم، ويناقش معهم قضية الإسلام، جاهداً خلال هذا النشاط المبدئي أن يتعرف بصفة عامة إلى مصادر القوة في المجتمع وأن ينفذ إليها.
وسرعان ما تبين أن المصادر الأولى للنفوذ، هي: (1) العلماء، و(2) مشايخ الطرق الصوفية، و(3) كبار القوم؛ وكان يعني بذلك الأسر الكبيرة المعروفة والتجمعات بشكل عام، و(4) النوادي؛ وتعني الجمعيات الدينية والاجتماعية، وهكذا وجَّه اهتمامه إلى هذه المصادر محاولاً التأثير فيمن يكوّنون الرأي العام.
على أن ملاحظات البنا حول المجتمع زادت من إدراكه للدور المخصص لهذه المدينة، بوصفها نقطة تميز للاحتلال العسكري البريطاني وللاحتلال الاقتصادي الأجنبي، ذلك أنها لم تقتصر على احتوائها المعسكرات الحربية البريطانية، ولكنها أيضاً كانت مركز شركة قناة السويس، وهذا وضع لا يقل إزعاجاً عن الاحتلال لما يتضمنه من سيادة أجنبية مطلقة على المرافق العامة، ولما ترتب عليه من إقامة المساكن البادية الأناقة والرفاهية يقطنها الأجانب ويشرفون منها على بيوت العمال البائسين، بل إن البنا لاحظ أن أسماء الشوارع ولافتات الطرقات في الأحياء الشعبية المصرية كانت مكتوبة بلغة الاحتلال الاقتصادي.
وعلى الرغم من انتباه البنا كان مركزاً بالضرورة حول البيئة الجديدة، فإنه ظل دائب التفكير في القاهرة بما فيها من آثام، وما يرتجيه من آمال، لذلك ظل مبقياً على صِلاته بالجماعات الإسلامية هناك، وبالأصدقاء الذين تعاهد معهم على خدمة رسالة الإسلام، فأولى “جمعية الشبان” اهتماماً خاصاً، وأعان على تأسيسها عام 1927م، كما عمل مندوباً لمجلة “الفتح” التي أصدرها آنذاك محب الدين الخطيب، مدير المكتبة السلفية، وأحد مؤسسي جمعية الشبان المسلمين.
وما لبثت جمعية البنا الخاصة أن ولدت بُعيد تأسيس جمعية الشبان المسلمين، ففي ذي القعدة 1347هـ/ مارس 1928م، حسبما سجله البنا، اجتمع ستة أعضاء من عمال المعسكر البريطاني بالبنا، وأعلنوا رسمياً افتتاح جمعية الإخوان المسلمين.
رجل المرحلة
هكذا كان العالم الإسلامي يعاني ما يعاني من تمزق في كيانه، وتصدع في بنيانه، ومن تهديم منظم لمادياته ومعنوياته.
وكان القدر الأعلى يصنع على عينه رجلاً يعده لمهمة، ويسد به ثغرة، كان الرجل هو حسن البنا، وكانت المهمة هي إيقاظ الأمة من رقود، وبعثها من همود، وتحريكها من جمود، وبعبارة أخرى: إحياء عقل الأمة وضميرها، وتفجير طاقاتها المكنونة بتجديد الإسلام فيها، وجمعها على رسالته، والإيمان به هدفاً ومنهاجاً للحياة، والجهاد في سبيل تمكينه في الأرض.
كانت الأمة في حاجة إلى عقل جديد، وقلب جديد، وعزم جديد، ودم جديد، وكانت في حاجة إلى أن تتجسد هذه المعاني في رجل يعاهد الله، لينير له الطريق، ويهديه سواء السبيل.
لقد أدى الأفغاني دوره في الإيقاظ العام لمشاعر الأمة لمقاومة الاستعمار، وأدى الإمام محمد عبده دوره في إيقاظ عقل الأمة، وقام رشيد رضا بعدهما بدور كبير غير منكور في التجديد والتأصيل الشرعي لمسيرة الإصلاح.
ولكن الأمة كانت تفتقر إلى جيل جديد من (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39).
جيل يحسن فهم الإسلام، ويؤمن به، ويعمل به، ويدعو له، ويجاهد في سبيله، ويعمل على صبغ الحياة العامة بصبغته؛ (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138).
ولا يقدر على تربية هذا الجيل وإعداده للمهمة الجليلة المنوطة به إلا رجل رباني، نذر نفسه وفكره وجهده وحياته لله رب العالمين، وكان الرجل المنتظر هو حسن البنا، الذي اصطفاه القدر، ولقد وجَّه أحد الصحفيين إلى حسن البنا –ضمن عدة شخصيات– سؤالاً يقول: من أنت؟ فكانت إجابته: أنا سائح يبحث عن الحقيقة، وإنسان يفتش عن الإنسانية في الناس بمصباح “ديوجين”، أنا متجرد أدرك سر وجوده فنادى في الناس: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
لقد سمعت حسن البنا في أواسط الأربعينيات من القرن العشرين يتحدث في مدينة طنطا إلى المعلمين، فكان مما قاله: إن الناس في حاجة إلى رجل ذي قلب يفيض من قلبه على قلوب من حوله، ومن هذا الفيض الرباني يفيضون على من حولهم، وبهذا يتحولون من حال إلى حال، ويخرجون من الظلمات إلى النور.
وكأن حسن البنا كان يتحدث عن نفسه، فهو ذلك الرجل المنشود “ذو القلب”، كما أنه أيضاً “ذو العقل”، والإسلام أبداً يقوم على القلب النقي والعقل الذكي، وهما يثمران العزم الفتي والسلوك السوي.
استمعتُ إلى حسن البنا وأنا طالب في السنة الأولى الابتدائية بمعهد طنطا الديني الأزهري، في مناسبة ذكرى الهجرة النبوية، وقال كلاماً ما زلت أعيه إلى اليوم؛ لأنه كان كلاماً جديداً مركّزاً مرتباً مفيداً، يغاير ما كنت أسمعه من الوعّاظ والخطباء كل عام في ذكرى الهجرة.
واستمعتُ إليه بعد ذلك كلما جاء إلى مدينة طنطا، وسافرت أكثر من مرة لأستمع إليه في بعض مدن الوجه البحري في مصر.
وقرأت –تقريباً– كل ما كتبه حسن البنا، مما نشر من تراثه، من رسائل وبحوث ومقالات ومنشورات، وعرفت أن الرجل كان موفقاً مسدداً مصنوعاً على عين الله، أحبه أصحابه وأتباعه أبلغ الحب، وقدروه أعظم التقدير، وقلَّ في الناس من تجمع له بين الحب والتقدير، إلا القليل، وكل من اتصل به إلا أعجبه وأحبه.
بل ربما عاب بعض الناس على إخوان حسن البنا أنهم يكادون يضفون عليه نوعاً من القداسة أو العصمة، وهذا لا ذنب له فيه، فالرجل لم يدع لنفسه قداسة ولا عصمة، وقال في “أصوله العشرين”: “كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم”، وكان في الأحفال التي تقام في مناسبات شتى إذا رأى من بعض الإخوان جنوحاً إلى الغلو في مدحه، قال: تكلموا في الدعوة، فإنها باقية والأشخاص فانون.
وكل من لقي حسن البنا كان لقاؤه مثنياً عليه، ومن عاشره أحبه، ومن خالطه أكثر ازداد له حباً وتقديراً.
وسماه رجل أجنبي “الرجل القرآني”، وهي تسمية أصابت كبد الحقيقة، وقال عنه المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني: “الملهم الموهوب”، وهي صفة ملموسة.
وهكذا ترى أكثر من أثنى على حسن البنا إنما هم الإخوان القريبون منه، العارفون به، المخالطون له، انظر ما قاله عنه الهضيبي، والتلمساني، وأبو النصر، ومشهور، الذين تولوا منصب الإرشاد العام من بعده.
وانظر ما كتبه عنه محمد فريد عبدالخالق، وعباس السيسي، ومحمود عبدالحليم، وغيرهم ممن صحبوه وعايشوه، وعرفوا مدخله ومخرجه.
* العدد (1355)، ص64-48 – 8 ربيع الأول 1420ه – 22/6/1999م.