لقد كان الشيخ الغزالي أكبر داعية، كان فقيهاً، خبيراً بقيمة الفقه الإسلامي الذي ورثناه، وداعية إلى تجديد هذا الفقه، وإلى نقد سلبياته، وإلى استكمال مؤهلاته التي تحقق له ملء الفراغ الذي يتمدد فيه القانون الوضعي العربي اللاديني، ولقد أشار إلى هذه المعاني فقال:
«أنا أعتبر الفقه الذي ورثناه من الشموخ والعظمة بحيث يصح اعتباره تراثاً عالمياً ينشغل به العقل المدني الباحث عن الحقيقة في إنجلترا أو فرنسا، لأنه -كما شعرت بهذا مؤتمرات مدنية بحتة- فقه غير عادي، وإن الإنسانية تحتاج إليه في ضبط قوانينها، والحكمة والأحكام التي لا بد منها لسياسة شرعية صالحة، إن الفقه الروماني الذي تحدث عنه أتباعه يشبه أكوام «السباخ» بالنسبة إلى جبال الهملايا التي تمثل الفقه الإسلامي.
ونحن في حاجة إلى الفقه المقارن لنردم الفجوات بين المذاهب الفقهية الإسلامية، وإلى فقه السُّنة، مضافاً إليه آراء الأئمة في آيات الأحكام وفي أحاديث الأحكام، وبذلك يمكن أن ننتفع بالسلف والخلف على سواء.
لقد تجمد الفقه الإسلامي عدة قرون، فلم يتحرك لا دولياً ولا دستورياً ولا عمالياً كي يسد الفراغ الموجود الآن في العالم الإسلامي، ويخيل إليَّ أن فقه العبادات قد أصيب بسرطان فوضوي في بعض الخلايا على حساب الخلايا الصحيحة، وهذا الامتداد الفوضوي حدث في فقه العبادات عندما تضخم إلى حد بعيد، بحيث أصبح في باب الوضوء أو باب الغسل مجلدات في أمر كان من الممكن أن يكتب على ظهر كراسة، وهذا التضخم جاء على حساب القانون الدستوري والقانون الدولي، وقانون المعاملات والعمل والعمال، والقانون الإداري؛ الأمر الذي جعل الأمة الإسلامية أفشل الناس في الإدارة»([2]).
عقل الفيلسوف وقلب الصوفي:
ولقد تآلفت في فكر الشيخ الغزالي، ونظرته، وإبداعاته، ومنهاجه في الدعوة إلى الله، تآلفت ملكات العقل، والنقل، والتجربة، والوجدان، فجمع بين عقل الفيلسوف وقلب الصوفي، والوعي بمقاصد النصوص وملكة المربي، موظفاً جميع هذه الملكات في العمل الصالح، الذي هو رسالة المؤمن في هذه الحياة، وعن هذا المنهاج في «الوسطية الإسلامية الجامعة» قال شيخنا الجليل:
“أنا لا أفرق بين الدين والعقل، أنا لا أشعر أن هناك حكماً عقلياً يتفاوت مع حكم ديني، إن الإسلام دين أوله عقل مستقيم، وقلب تقي، ومن فقد هذا العقل فلا مكان له عندي في الإسلام”.
وأنا أعتبر التصوف منجماً مليئاً بالأتربة والتبر، وهو بحاجة إلى خبير محترم يدخل فيه ليخرج بالنفائس، ويبتعد عن الأتربة، إن الأمة الإسلامية -للأسف- لم تحسن الانتفاع من كنوز التصوف التي لديها، أنا أحياناً أقرأ حِكَم ابن عطاء الله السكندري (709هـ/ 1309م) أولى المؤلفات بكلمة سعد زغلول: «كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبة من نور الذكر الحكيم»، لأني وجدت رجلاً خبيراً بالله: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: 59)، وخبيراً بالطريق إليه، وخبيراً بالنفس البشرية وعللها، راغباً في أن يربطك بربك «انشغالك بما ضُمن لك، وعزوفك أو تكاسلك فيما طُلب منك»، هذه فعلاً نظرات رجل عميق الفكرة، فاهم للإسلام جيداً (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: 36)، أيمكن أن يمضي قرار دون أن يعلمه الله سبحانه وتعالى؟! مستحيل، فهو يريد طمأنة الناس حتى يمشوا في طريق طلب الرزق برفق، غير مسعورين، ولكنه في الوقت نفسه، يصوغ هذا صياغة أدبية لائقة، وعارف بطبيعة البشر.
ولكن، مع أن ابن عطاء الله له هذه الكلمات الرائقة، فله كلمات لا يمكن أن تُقبل أبداً، فقد ألَّف كتاباً في إبطال التدبير «التنوير في إسقاط التدبير»، وفيه بعض الأمور التي يصبح التفكير فيها جنوناً، لأن القدر تولاها، وانقطعت يد الخلق عنها، فمحاولة دخول الإرادة الإنسانية فيها نوع من الفشل، ولكن في أمور أخرى لا بد أن تتحرك، ويقول لك: اعمل اعمل».
«أنا، في أعماق قلبي، صوفي، وأنا أرى أن العاطفة الحارة جزء من الحقيقة، وأرى أنه لا بد من أن يكون لكل إنسان كبير قدر من التصوف والأخلاق، والأخلاق قسمان، أخلاق إلهية ربانية، وأخلاق إنسانية، من الصدق والإنابة والوفاء وما إلى ذلك، لكن الأخلاق في معاملة الله لا بد أن تكون عادة للنفس، فتعتاد التوكل على الله، مع الأخذ بالأسباب، ومحبة الله.
وأنا أرى أن التصوف -كما سميته في بعض كتبي- هو الجانب العاطفي من الإسلام، ويستحيل أن يكتمل إيمان وأن تنضج معانيه في النفوس مع خراب أو مع خفافه، لا بد من وجدان فيه انفعالات، إن الإسلام قلب وعقل، عقل لا خرافة فيه، وقلب لا رهبنة فيه، وليس فيه التكاسل عن واجب ينبغي أن ينشط إليه، إن بشاشة الإيمان لا يمكن أن تجيء من الدليل العقلي وحده، بل تجيء من الانفراج النفسي له، وانفتاحها وتجاوبها معه.
إن الأخلاق الربانية تقوم كلها على عمل القلب، أي على الحب في الله، على التوكل، على التفويض لله، الخشية من الله، الرجاء في الله، الورع لله، هذه المعاني كلها، من صبر وشكر وخوف ورجاء، ليست صفات العقل، بل هي صفات القلب، وهي انفعالات، فالقول بأن الدين لا انفعالات فيه مثل القول بأن الدين لا تصوف فيه، هناك تصوف، لكن من قال: إن التصوف لا بد أن يكون خرافياً، الفقه الغبي مثل التصوف الغبي، كلاهما خطر على الإسلام، وضرر في مجال الدعوة إليه.
لقد وجدت حجة الإسلام الغزالي (450 – 505هـ/ 1058 – 1111م) فقيهاً وصوفياً، ومربياً صاحب أخلاق، وإلى جانب هذا فيلسوفاً دراسته للفلسفة تعلو على «سقراط» و«أرسطو»، لأنه يطل عليهم من أعلى، ويعرف صوابهم فيزيده، ويعرف خطأهم فينقده، ويدرس الأديان، فهو عدة مدارس تكاملت، ووجدت ابن تيمية كذلك، وأنا لا أعطي لقب شيخ الإسلام إلا لمن كان نابهاً في مدارس كثيرة، أما المتفقه فقط، أو الأصولي فقط، أو المحدث فقط، فهو متخصص في جانب.
لقد رأيت بعض تراجم لتراث أبي حامد الغزالي بالفارسية، فوالله لقد شعرت بتفاؤل غريب أمام أبي حامد، وأحسست أن الرجل لديه من عواطف الحب والعشق الإلهي، ما لو وزع على البشر لجعلهم من العارفين بالله، وكان يتكلم بحرقة عن العظمة الإلهية، فقلت: لماذا نتخاصم ولا ننتفع بثمرات هذا وذاك من رجالنا الكبار؟ لا بد من التصوف، لكن أين هم الصوفيون؟! ليسوا أصحاب الطرق، فأصحاب الطرق جماعة نظموا أنفسهم بطريقة معينة، فأنا لا أستطيع أن أقول: إن هؤلاء هم الصوفية.
أنا أريد قلباً ينفتح بمفاتيحه العقلية، ولست ممن يودون أن تقترن العبادات بالموسيقى، لأني ألتزم في العبادات بما ورد، ولم نقع في سُنة نبينا وما صح من سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه جنح إلى موسيقى في مجلس ذكر من مجالس العبادة، بل كان الذكر عنده تحريك العقل الإنساني وتحريك القلب بالبيان الرفيع.
والسؤال يأتي: لماذا استعمال الموسيقى؟ في نظري أن الموسيقى ربما كانت مفتاحاً لقبول الخرافة، وقد وجدت من فقراء الهنود الذين يقدسون الأوهام من يستغل الموسيقى وأصواتها الشجية، في قبول الأباطيل، وكذلك وجدت في عقائد الشرك وما إليها، وجدت أنها تستغفل العقل الإنساني ببعض الأنغام الحلوة حتى تخدره، فيقبل ما لا يُقبل، فأنا أرفض أن ينضم إلى مجالس العبادة أي غناء، وفي ظني أن تحريم القدماء للغناء كان من هذا الجانب.
أما أنني أسمع قصائد فيها غناء ديني وفيها موسيقى دينية، فهذا شيء آخر غير مجالس الذكر والعبادة، ولا بأس عندي قط أن أستمع إلى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم كما شرحه البوصيري (608 – 696هـ/ 1212 – 1296م) في «بردته»، وكما شرحه شوقي، وأذكر وأنا في أحد المطاعم، سمعت صدى يتسلل إلى قلبي يملؤه بالرهبة ويجعلني أميل إلى الجانب الذي يجيء منه هذا الصدى، وكان فيما بدا لي شيخ يقرأ، أو يغني بصوت لا تكلف فيه، لكنه صوت جاد بأبيات البوصيري التي فيها:
كأنه فرد من جلالته
في عسكر حين تلقاه وفي حشم
كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف
من معدني منطق عنه ومبتسم
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه
طوبى لمنتشق منه وملتثم
أبان مولده عن طيب عنصره
يا طيب مبتدأ منه ومختتم
يوم تفرّس فيه الفرس أنهم
قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى ينصدع
كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
والنار خامدة الأنفاس من أسف
عليه والنهر ساهي العين من سدن
مثل هذه الأبيات كلها تحدث عن شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة نقلتني إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأني في مجلسه، أشعر بتقديره وتوقيره وتكريمه، وما أودع الله في شمائله من خلال يخضع لها الإنسان الذي يحب الجمال والجلال».
«لقد كانت صلتي بأبي حامد الغزالي محايدة، فلما كبرت أحببته، لأني وجدت في حياته من مشاعر الوله والحب لله ما جعلني أحس أنني أمام قمة في الإنسانية الزاكية الراقية، ومع هذا كنت أقرب إلى العقلانية مني إلى التصوف»([3]).
الإصلاح بالإسلام:
ولقد كان الشيخ الغزالي واحداً من قادة الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين؛ لأنه آمن بشمولية الإسلام «الذي له رأيه في التشريع كله، سواء كان تشريعاً اجتماعياً أو أسرياً أو عسكرياً أو دولياً، أو محلياً، كل هذا لا بد أن نفهم أن الإسلام جاء به..»([4]).
وآمن شيخنا الغزالي أن الفساد إنما يأتي من الطبقات والسلطات العليا، وأن الإصلاح إنما يبدأ ويأتي من الأمة والقواعد، ليصعد إلى أعلى! فقال:
«إن كل المصلحين يرون أن الفساد يجيء من أعلى ويهبط إلى أسفل، أما الإصلاح فيبدأ من أسفل ويصعد إلى أعلى، ولا بد أن نربي الناس، ونستعين بالرأي العام الذي نكسبه ونكوّنه على التبليغ، وعلى الوصول إلى أداة السلطة؛ حتى نحقق ما نريد، أما أن أطلب السلطة أولاً؛ فبأي الأدوات أطلبها؟ وبأي الأفراد أصل إليها؟».
«إنه لا بد للإسلام من دولة تقيم أحكامه كلها، لا بد من مجاهدة أعداء الله الذين يريدون اغتصاب أرضنا، لا بد من إعداد ثقافي تشريعي للمجتمع، لا بد من إعداد حضاري وعمراني يستطيع به أهل الإسلام أن يحتفظوا بأرضهم وصبغتهم، هذا لا بد منه؛ لأن الإسلام رسالة الكون والحياة»([5]).
العدد (2013)، 15 رمضان 1433هـ/ 13 أغسطس 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م.
([3]) المرجع السابق، ص 247، 251، 12، 64، 67، 169، 287، 288، 289، 308، 309.