آخر المقومات السبعة لحركة الإخوان المسلمين هو وضوح مواقفها –إلى حد كبير– من القضايا الكبيرة؛ الدينية أو الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية، التي تشغل الناس وتجعلهم يتساءلون عنها، وعن موقف الإخوان منها، ولم يكن الأستاذ البنا رحمه الله ليهرب من هذه التساؤلات باللف والدوران، أو إرجاء الحديث عنها، أو تمييعه، بل تصدى للجواب بحكمة وشجاعة، مبيناً موقف دعوته من قضايا مهمة وحساسة يفر الكثيرون من تناولها، لما فيها من مزالق وإحراجات، وهذه الأجوبة أو المواقف قد تكون في بعض الأحيان مجملة غير مفصلة، أو ربما ينقصها التدليل الفقهي الموسع، أو التفصيل العلمي المشبع، ولكنها –في وقتها– كانت كافية لمن يريد أن يفهم، وفاتحة الطريق لمن يريد أن يتوسع، فهي مشاعل مضيئة، ومنارات هادية على الطريق، ولم يكن الأستاذ في موقف “الباحث” المتعمق الذي يتتبع المصادر، بل في موقف “المصلح” الذي تكفيه الإشارة عن العبارة، والإجمال عن التفصيل، وقد يأتي يوم يتفرغ فيه لتفصيل ما أجمل، ولتفسير ما أبهم، وقد يقوم بذلك بعض إخوانه وتلاميذه في حياته أو من بعده، وكل ميسر لما خلق له.
ثم هناك أمر آخر كان يخشاه الأستاذ البنا، وهو أن الدخول في التفاصيل سيؤدي إلى اختلاف الآراء، وتعدد الاجتهادات، ومثل هذا ينبغي أن يؤجل حتى تنضج الجماعة، وتتهيأ لمثل هذا اللون من الخلاف الاجتهادي، في رسائل الإمام البنا الأولى، مثل “رسالة المؤتمر الخامس” للإخوان، الذي عقد بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الإخوان، و”رسالة المؤتمر السادس” بعدها، وفي رسالة “نحو النور” التي وجهها إلى الملوك والرؤساء وقادة الأحزاب والجماعات والشخصيات البارزة في المجتمع المصري، وغيره من المجتمعات العربية والإسلامية، وفي رسالة “دعوتنا في طور جديد” وقد كتبت عام 1942م، في هذه الرسائل نجد حسن البنا يوضح موقف الإخوان من عدد من القضايا المهمة، ولا يبخل بالجواب عمن سأل عن حقيقة موقف الجماعة منها، سواء كان ذلك داخل الإخوان، الذين يحبون أن يعرفوا موقف دعوتهم ويفهموه ويبلغوه للناس، أم كان من خارج الجماعة ممن يحبونها ويوالونها ويودون أن يتعرفوا على مواقفها، أو ممن يضمرون لها السوء، ويودون أن يشوّشوا عليها، وسنذكر هنا عدداً من القضايا التي بيَّنها الإمام الشهيد عليه رحمة الله ورضوانه.
الإخوان واستخدام القوة
في “رسالة المؤتمر الخامس”، يرد الأستاذ البنا على تساؤل الكثير من الناس: هل في عزم الإخوان استخدام القوة للوصول إلى غايتهم وتحقيق أغراضهم؟ ويجيب الأستاذ عن ذلك بوضوح وجلاء، فيبين أن القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في صراحة وجلاء: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، ولكنه يذكر أن الإخوان أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها، وما يقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً، وإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح، وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام، أو ضعيفة خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك، هذه نظرة، ونظرة أخرى: هل أوصى الإسلام –والقوة شعاره– باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدوداً، واشترط شرطاً، ووجه القوة توجيهاً محدوداً؟
ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول العلاج أم إن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج القوة النافعة ونتائجها الضارة، وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟ هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه، وبعد كل هذه النظرات والتقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك، ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.
وهذه القوة التي أشار إليها الإمام الشهيد ليست هي الاغتيال السياسي، ولا قتل المدنيين، ولا تدمير المنشآت، فهذه لا يصارح بها، بل تتم في تكتم وسرية، كما أن الأستاذ يرفض “الثورة الشعبية” العامة، فهو يراها أعنف مظاهر القوة، ويرى عدم جدواها، ولهذا لا يفكر الإخوان فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشكلات، فسيؤدي ذلك حتماً إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشكلات التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيراً من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال.
الإخوان المسلمون والحكم
ويرد الأستاذ البنا على تساؤل فريق آخر من الناس: هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يكوّنوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم؟ وما وسيلتهم إلى ذلك؟
ويرد الأستاذ بصراحة، لا تدع السائلين في حيرة، ولا يبخل عليهم بالجواب، ويبين في إجابته:
أن الإخوان يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدي الإسلام الحنيف كما فهمه، وهذا الإسلام يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديماً قال الخليفة الثالث: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عروة من عرى الإسلام، والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع.
فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر، والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الأحكام، ويرتل التعاليم، ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامرهن فإن النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد كما يقولون، ثم يقول الأستاذ:
قد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذاً لأحكامه، وإيصالاً لآياته وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد، والتشريع الفعلي التنفيذي في واد آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفّرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف، هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا، ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف، وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطالبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله.
ثم يشير الأستاذ إلى قضية كبيرة، ومهمة، وهي ضرورة تهيئة الشعب عقلياً ونفسياً وأخلاقياً لحكم الإسلام، فيقول: وعلى هذا، فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم، ونفوس الأمة على هذه الحال، فلا بد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لا بد إذن من إعداد الشعب وتهيئة الأجواء، حتى يكون الحكم الإسلامي نابعاً من رغبات الناس واختيارهم، لا قراراً فوقياً مفروضاً عليهم.
وهذا ما يعبر عنه اليوم في مصر –ومنذ سنين عدة– بفكرة “التدرج” في تطبيق الشريعة، وهو ما أيدناه فيما كتبناه، فالتدرج سُنة كونية وسُنة شرعية، بشرط ألا يكون المقصود بكلمة التدرج “تمويت القضية”، إنما التدرج الحقيقي أن يحدد الهدف، وتوضع الخطة لتنفيذه على مراحل معينة كل مرحلة تسلم إلى أخرى في مدة معلومة، أو قريبة من المعلومة، فهذا هو التدرج المطلوب، لا أن يظل الناس في موقفهم “محلك سر” ولا يتقدمون خطوة إلى الإمام، ثم يقال: نحن نتدرج!
موقف الإخوان من الحكم الدستوري
وتعرض الأستاذ البنا في هذه الرسالة أيضاً إلى موقف الإخوان من الدستور، وقال في ذلك:
إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب، ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم، ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر.
أولهما: النصوص التي تصاغ في قالبها هذه المبادئ.
ثانيهما: طريقة التطبيق التي تفسر بها عملياً هذه النصوص.
إن المبدأ السليم القويم قد يوضع في نص مبهم غامض؛ فيدع مجالاً للعبث بسلامة المبدأ في ذاته، وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى وتوحيها الشهوات؛ فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة.
الإخوان المسلمون والقانون
وإذا كان هذا موقف الإخوان من الدستور –وهو أبو القانون– فما موقفهم من القوانين نفسها؟
يقول الأستاذ البنا: إن الإسلام لم يجئ خلواً من القوانين، بل هو قد أوضح كثيراً من أصول التشريع وجزئيات الأحكام، سواء أكانت مادية أم جنائية، تجارية أم دولية، والقرآن والأحاديث فياضة بهذه المعاني، وكتب الفقهاء غنية كل الغنى بكل هذه النواحي، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهذه الحقيقة، وأقرها مؤتمر لاهاي الدولي أمام ممثلي الأمم من رجال القانون في العالم كله، فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضة مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسُنة نبيها، مصطدماً كل الاصطدام، بما جاء عن الله ورسوله، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك من قبل، فقال تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة)، وذلك بعد قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47)، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البيّنات وغيرها من الأحاديث والأحكام ثم رأى نفسه محكوماً بقانون يصطدم معها؟ فإذا طالب بالتعديل قيل له: إن الأجانب لا يرضون بهذا ولا يوافقون عليه، ثم يقال بعد هذا الحجر والتضييق: إن المصريين مستقلون وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدين، وهي أقدس الحريات، على أن هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدين ونصوصه، تصطدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام، فكيف نوفق بين هذين يا أولي الألباب؟
الإخوان والأحزاب السياسية
تحدث الأستاذ البنا عن الحزبية والأحزاب المصرية في أكثر من رسالة له، وهو يعارض الحزبية والأحزاب لما رأى من سوء أثرها وتفريقها لأبناء الوطن الواحد، ولهذا لا يفاضل بينها، ولا ينحاز لواحد منها، ولكن يعتقد أنها تتفق جميعاً في عدة أمور.
تتفق في أن كثيراً من رجالها قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، واشتركوا فعلاً في الجهاد في سبيلها، وفي الوصول إلى ما وصلت إليه مصر من ثمرات هذا الجهاد الضئيلة أو الجليلة، فنحن في هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم، وتتفق كذلك في أن حزباً منها لم يحدد بعد منهاجاً دقيقاً لما يريد من ضروب الإصلاح، ولم يضع هدفاً يرمي إليه، وهي لهذا لا تتفاوت في المناهج والأغراض والغايات.
وتتفق كذلك في أنها جميعاً لم تقتنع بعد بوجوب المناداة بالإصلاح الاجتماعي على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام، وما زال أقطابها جميعاً يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانيات لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية، وتتفق بعد ذلك في أنها تعاقبت على حكم هذا البلد ولم تأت بجديد، ولم يجد الناس في ظل حكمها ما كانوا بين الأحزاب المصرية التي في مظاهر شكلية وشؤون شخصية لا يهتم لها الإخوان المسلمون، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعاً نظرة واحدة، ويرفعون دعوتهم –وهي ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم- فوق هذا المستوى الحزبي كله، ويوجهونها واضحة مستنيرة إلى كل رجال هذه الأحزاب على السواء، ويؤدون أن لو أدركت حضراتهم هذه الحقيقة، وقدروا هذه الظروف الدقيقة، ونزلوا على حكم الوطنية الصحيحة، فتوحدت كلمتهم، واجتمعوا على منهاج واحد تصلح به الأحوال وتتحقق الآمال، وليس أمامهم إلا منهاج الإخوان المسلمين، بل هدي رب العالمين؛ (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى: 53).
وقد انتهى اجتهاد الإمام البنا إلى وجوب حل الأحزاب جميعاً، وإقامة حزب واحد وجبهة واحدة، وتقوم بعبء التحرير والإصلاح، بدل هذا التشرذم الذي لا يستفيد منه غير الأعداء.
ولا ريب أن رأي الإمام الشهيد كان مؤسساً على واقع الأحزاب في زمنه، وحاجة مصر إلى الوحدة وتكتل القوى الوطنية كلها في مواجهة الاحتلال الإنجليزي الغاشم، فلا غرو أن ينتهي إلى وجوب حل الأحزاب كلها، وإقامة جبهة واحدة تضم الجميع، ولا شك أن ثورة يوليو 1952م استفادت من هذا الكلام، وحلت الأحزاب كلها، واستثنت الإخوان أول الأمر، ثم ضمتهم بعد ذلك إلى القائمة، وأنشأ عبدالناصر “الاتحاد الاشتراكي” ليضم “قوى الشعب العاملة”، ولم يكن البنا يقصد إلى شيء من هذا قطعاً، ومن هنا خالف اجتهادنا اجتهاد إمامنا الشهيد في هذه القضية، وقدمنا دراستنا عن مشروعية تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية، وقلت في ذلك: إن تعدد الأحزاب أشبه بتعدد المذاهب في الفقه، فكل مذهب له أصوله ورؤيته الخاصة التي قد تختلف مع أصول الآخرين ورؤيتهم، وهذا الاختلاف له أثره في القضايا والمواقف العملية، ومما قلته هنا: إن الأحزاب إنما هي مذاهب في السياسة، كما أن المذاهب إنما هي أحزاب الفقه!
وأعتقد أني بخلافي هذا للإمام الشهيد، لم أخرج عن منهجه الكلي، ولا عن أصوله التي دعا إليها، فهو لم يدع أهل العلم إلى التقليد، وإنما دعاهم إلى النظر والبحث والاجتهاد.
وأحمد الله تعالى أن جماعة الإخوان المسلمين قد تبنت هذه الفكرة، ولم تجمد على رأي مؤسسها، رغم ما تكنّ له –وما أكن له أنا شخصياً– من حب وتقدير، ولكن الزمن تغير، فتغير الموقف، وتغيرت الفتوى، وأحسب لو رأى الإمام البنا ما رأيناه من طغيان “الحزب الواحد” على سائر قوى الشعب، وبطشه بمخالفيه، لغيَّر رأيه واجتهاده، كما غيَّرناه.
الإخوان والهيئات الإسلامية
ويبقى السؤال عن موقف الإخوان من الجماعات الدينية والهيئات الإسلامية الأخرى، وفي “رسالة المؤتمر السادس” يحدد البنا رحمه الله الموقف من الهيئات والجماعات الإسلامية المتعددة فيقول:
وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية جميعاً على اختلاف نزعاتها، فموقف حب وإخاء وتعان وولاء، نحبها ونعاونها، ونحاول جاهدين أن نقرب بين وجهات النظر، ونوفق بين مختلف الفكر، توفيقاً ينتصر به الحق في ظل التعاون والحب، لا يباعد بيننا وبينها رأي فقهي أو خلاف مذهبي، فدين الله يُسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولقد وفقنا الله إلى خطة مثلى؛ إذ نتحرى الحق في أسلوب لين يستهوي القلوب، وتطمئن إليه العقول، ونعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الأسماء والألقاب والفوارق الشكلية، والحواجز النظرية، وتحل محلها وحدة عملية تجمع صفوف الكتيبة المحمدية، حيث لا يكون هناك إلا إخوان مسلمون للدين عاملون، وفي سبيل الله مجاهدون: (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة: 56)، وأنا أقول: “إن توحيد الجماعات الإسلامية في جماعة أو كتيبة محمدية واحدة أُمنية عذبة حلوة المذاق، ولكنها –في عالم الواقع– بعيدة المنال”.
ولهذا ذكرت في عدد من كتبي أنه لا مانع أن تتعدد الجماعات والهيئات العاملة للإسلام، على أن يكون تعدُّد تنوع وتخصص، لا تعدد صراع وتناقض، فميدان العمل رحب، وهو يتسع لأكثر من جماعة وأكثر من حركة، ولكن يجب على الجميع أن يتفاهموا ويتعاونوا، وأن يكمل بعضهم بعضاً، لا أن تعمل كل فئة لهدم ما سواها.
قضية الخلافات الدينية
وفي قضية الخلافات الدينية بين الجمعيات والهيئات الإسلامية بعضها وبعض، سواء أكان ذلك في الفرعيات العقيدية، أم في الفرعيات الفقهية، أم في الفرعيات السلوكية، نجد الأستاذ البنا قد عالج ذلك في أكثر من رسالة، ولا سيما “رسالة التعاليم”، ووضع لذلك “الأصول العشرين” الشهيرة، التي صاغها رحمه الله بحكمة واعتدال، بحيث يجتمع عليها المختلفون إذا صلحت سرائرهم، وصدقت نياتهم، ورغبوا في التعاون على نصرة الإسلام.
لم ترفض هذه الأصول التصوف كله، كما تفعل بعض الطوائف، ولم تقبله بعجره وبجره وسُننه ومبتدعاته، كما تفعل طوائف أخرى، بل أخذ من التصوف وترك، أخذ السُّنة وترك البدعة، أخذ الحق ورفض الباطل، ولذا أنكر الشركيات والقبوريات وما اتصل بذلك، ورفض الابتداع في العبادة، وخصوصاً إذا كانت البدعة بدعة أصلية.
والآن القول في البدع الإضافية والالتزام في العبادات، فقد ذكر أن فيه خلافاً، كما ذكر أن الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه بالنبي أو بالصالحين وبالملائكة، ونحو ذلك، قد اختلف فيه، وهو خلاف في كيفية الدعاء أي في العمل، وليس في مسائل العقيدة، ما دام المدعو هو الله تعالى، ونحو هذا قاله الإمام محمد بن عبدالوهاب، في بعض كتبه، ومما قاله في الأصول:
“وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسُّنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسُنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نتعرض للأشخاص –فيما اختلف فيه– بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا، ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين –الفقه– ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صح عنده من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي –إن كان من أهل العلم– حتى يبلغ درجة النظر، والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي في خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف، في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً.. إلخ”، هذه مجموعة من الأصول العشرين تنم عن حكمة بالغة، وعن فقه عميق في دين الله، وفهم دقيق لواقع الناس، ومن شأن العمل بهذه الأصول أن يضيق شقة الخلاف، وأن يحول الضروري منه إلى سعة ورحمة، وقد تبنى الأستاذ البنا قاعدة “المنار الذهبية” التي تقول: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، حتى ظن بعض الإخوان أنها من كلمات المرشد رحمه الله.
الخلاف ضروري لأسباب
ثم بيَّن أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة، ولا يمكن أن تتحد في هذه الفروع الآراء والمذاهب؛ لأسباب عدة، منها:
اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل والجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، ارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث، ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلا بد من خلاف، ومنها: سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذلك، والآخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة، ومنها: اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما أخذ بما استبان له وما اتضح عنده، لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما، ومنها: اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين بها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند الإمام تطمئن إليه نفسه وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله.
ومنها: اختلاف تقدير الدلالات، فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً، وذلك لا يقول معه به، وهكذا.
ثم قال: “كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هيّن ليّن لا جمود فيه ولا تشديد، نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب، والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته”.
ويعود الأستاذ إلى ذلك في “رسالة المؤتمر الخامس” فيوضح أن خصائص دعوة الإخوان البعد عن مواطن الخلاف الفقهي، لأنهم يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر لا بد منه.
الموقف من الغربيين
وقد رد الأستاذ البنا على من زعموا أن التمسك بالإسلام يعكر صفو العلائق بيننا وبين الغرب، ويجعلهم يخافوننا أن يسيؤون الظن بنا، فقال رحمه الله: وقد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، وهو أيضاً ظن عريق في الوهم، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أم غيره، وإن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها، ما دام لا يمس حقوق الآخرين، فعلى ساسة هذه الدول جميعاً أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها، فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 34) ويقول: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4) ويقول: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ) (التوبة: 7)، ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6)، وهذا بالمشركين فكيف بالكتابيين؟
فالإسلام الذي يضع هذه القواعد، ويسلك بأتباعه هذه الأساليب، يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى، تضمن لهم، بل يقول الأستاذ: إنه من خير أوروبا نفسها أن تسودها النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى.
المواقف من الحضارة الغربية
تعرض الأستاذ البنا للموقف من الحضارة الغربية في أكثر من رسالة له، وخصوصاً في معرض بيان الصراع الاجتماعي والثقافي بين الغرب والإسلام، ووضح الأستاذ البنا أن مظاهر هذه الحضارة مظاهر مادية بحتة تهدم ما جاء به الأديان السماوية، وتناقض كل تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف، وجعلها أساساً لحضارته، التي جمعت بين الروحانية والمادية جميعها، ومن أهم الظواهر التي لازمت المدنية الأوروبية.
1- الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي والوقوف عند حدود الكون المادي المحسوس؛ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7).
2- الإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز الدنيا من عقالها، وإشباع شهوتي البطن والفرج، وتجهيز المرأة بكل صنوف المفاتن والمغريات، والإغراق في الموبقات إغراقاً يحطم الأجسام والعقول، ويقضي على نظام الأسر ويهدم سعادة البيوت؛ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد: 12).
3- الأثرة في الأفراد، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه، وفي الطبقات، فكل طبقة تتعالى على من سواها، وتود أن تحظى بالمغانم دونها، وفي الشعوب، فكل أمة تتعصب لجنسها وتنتقص غيرها وتحاول أن تلتهم من هي أضعف منها.
4- الربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة التعامل، والتفنن في صوره وضروبه وتعميمه بين الدول والأفراد.
وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحتة في المجتمع الأوروبي فساد النفوس، وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم؛ فكثرت المشكلات، وظهرت المبادئ الهدامة، واشتعلت الثورات المخربة المدمرة، واضطربت النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فلم تستقر على حال، وتمزقت الدول بالطوائف والأحزاب، وتناحرت الشعوب على المطامع والأحقاد، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وإقرار الطمأنينة والسلام فيه، وفشلت في إسعاد الناس، رغم ما فتحت عليهم من حقائق العلم والمعرفة، وما وفرت لهم من أسباب الغنى والثراء، وما مكنت لدولها في الأرض من قوة وسلطان.
ربما قال بعضهم: إن الأستاذ البنا كان قاسياً في نقده للحضارة الغربية، وكأنه لم يعترف لها بحسنة ولا مزية، وعذره أنه كان معرض المقاومة لموجات التغريب والتذويب للأمة الإسلامية، ورد الفعل يكون على مقدار الفعل في القوة، وإلا فإن أحداً لا يجحد فضل الحضارة الغربية في الجانب العلمي والتكنولوجي والإداري والتنظيمي الدنيوي لشؤون الحياة، وفي الأصول العشرين لحسن البنا: أن الإسلام يرحب بالصالح النافع في كل شيء، وأن “الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها”، وفي وصية قديمة للأستاذ البنا كتبها إلى أحد المبعوثين من وزارة المعارف إلى إنجلترا، أوصاه فيها بعدة أمور، كان سابعها: “كن مع القوم ناقداً بصيراً، ومنصفاً خبيراً، لا تستهويك محاسنهم فتنسى مساوئهم، ولا تؤلمك مساوئهم فتسنى محاسنهم، بل ادرسهم دراسة الفاحص المدقق، وأحط بكل ما تستطيع من شؤونهم علماً، ثم انقد ذلك كله بعين البصيرة، فما كان حسناً فأهده إلى أمتك وقومك، وعد به مظفراً مؤيداً، وما كان غير ذلك فألقه إليهم، لا تقم له وزناً، ولا تأت إلا وقد نفضت منه يدك وفرغت خاطرك، ولعل هذه الفقرة التي كتبها البنا عفو الخاطر في رسالة وصية أدق في التعبير عن موقفه من حضارة الغرب، فهو يوصي بأخذ الخير والنافع منها، واجتناب الشر والضار فيها، وهذا هو الموقف العدل.
الإخوان والوحدات الثلاث
وللإخوان موقفهم الواضح من الوحدات الثلاث، التي يتحدث عنها الناس، وهي: الوحدة الوطنية، والوحدة العربية، والوحدة الإسلامية.
ويظن بعضهم أنها متناقضة، وأن العمل لإحداها يتعارض مع العمل للأخرى وللآخرين.
والإخوان لا يرون أي تناقض في ذلك، فإن الخاص لا يناقض العام، والجزئي لا يناقض الكلي، فهي تتكامل ولا تتعارض، والمسلم مطالب بأن يعمل لها جميعاً إن أمكن ذلك، فإن لم يمكن بدأ العمل لوطنه ووحدته وتقدمه أولاً، ثم لقومه من العرب ثانياً، ثم لأمته الإسلامية ثالثاً.