ومن الخصائص التي تميزت بها دعوة الإخوان المسلمين عما سبقها وما عاصرها من دعوات الإصلاح العناية بالتكوين؛ تكوين الطلائع أو الحراس الذين يجسدون جيل النصر المنشود، وذلك أن الحركة تعمل على توعية الجماهير الغفيرة ودعوتهم العامة إلى الإسلام، ثم تستخلص منهم العناصر الصالحة، والمستعدة للبذل والتضحية وحمل أعباء الجندية في سبيل الله، وهؤلاء هم الذين يوجّه إليهم التكوين المتكامل، أهم عناصر هذا التكوين ثلاثة أساسية، وهي:
1- التثقيف العقلي.
2- الإيقاظ الروحي.
3- الترابط الأخوي.
وقد عبر الإمام البنا عن هذه العناصر الثلاثة يوماً، فسماها:
1- الفهم الدقيق.
2- والإيمان العميق.
3- والحب الوثيق.
وعبر عنها الداعية المعروف د. سعيد رمضان، في مقال قديم له، عن “أواصر الجماعة المؤمنة” فاعتبرها: العاطفة، والفكرة، والتنظيم.
المهم هنا أن هذا التكوين بعناصره الثلاثة مما تميزت به دعوة الإخوان، فلم تكن دعوة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، أو دعوة عبد الرحمن الكواكبي، وأمثالهم من المصلحين الإسلاميين تعنى بجانب التكوين أو التربية أو البناء، إنما تعنى بالتوعية والإيقاظ والتنوير العام، أما حسن البنا فقد رأى أن التوعية العامة لا تكفي وحدها لإصلاح الأمة وتغيير ما بأنفسها، حتى يغير الله ما بها، وأنه لا بديل عن التجنيد والتربية والبناء لتحقيق الغاية المنشودة.
وكان حسن البنا يرى أن يتبع المنهاج النبوي في ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أكبر همه طوال العهد المكي تكوين الجيل الرباني، والرعيل القرآني الأول، من خلال تعهد دائم، وصحبة مباركة، ومراقبة إيجابية، وكانت “دار الأرقم” في مكة أشهر دار للتربية الأساسية التي خرَّجت أول أجيال الإسلام وأفضلها، الذين وصفوا بأنهم “رهبان الليل وفرسان النهار”، وأنهم “يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع”، وأعظم ما وصفوا به ما جاء في كتاب الله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29).
1- التثقيف العقلي:
العنصر الأول في التكوين هو ما يتعلق بتثقيف الفكر، وتنوير العقل، فالإسلام دين ينشئ “العقلية العلمية” ويرفض “العقلية الخرافية” أو “العامية” التي تعتمد على الظن في موضع اليقين، أو تعتمد على الهوى والعواطف في مقام لا يغني فيه إلا الحقائق الموضوعية، وهو ما يرفضه القرآن الكريم، الذي يذم المشركين بقوله: (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم: 28)، ويقول في السورة نفسها: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم: 23)، والعقلية العلمية التي ترفض التقليد الأعمى، سواء كان للأجداد والآباء، وفي ذلك يقول القرآن: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، أم كان للسادة والكبراء، كما قال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (الأحزاب)، وقد تكرر هذا المعنى في جملة سور من القرآن الكريم، والعقلية العلمية التي ينشئها الإسلام هي التي تؤمن بوجوب النظر والتفكير في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، فالكون كله مسرح للفكر والتأمل، وكذلك التاريخ ومصاير الأمم، وكذلك الإنسان بكل آفاقه الروحية والمادية، ولا تقبل العقلية الإسلامية دعوى لا بيّنة لها، فهي تعتمد البرهان في العقليات، والتوثيق في النقليات، والتجربة في الحسيِّات، يقول القرآن لأصحاب العقائد: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111)، وفي مقام النقل: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف: 4) وفي مقام آخر يقول: (نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام: 143)، ومن ثم كان بدء الوحي القرآني بهذه الآيات: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، والقراءة باب العلم ومفتاحه، ولذا حرص الإمام البنا على أن تكون “الثقافة” أو “العلم” أو “الفهم” من مقومات شخصية المسلم.
فمن تكوين الفرد المسلم كما في “رسالة التعاليم”: أن يكون مثقف الفكر، سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، قوي الجسم.
وفي رسالة “دعوتنا في طور جديد”، يتحدث عن الفرد المسلم المنشود، فيذكر أن الإسلام يريد فيه إدراكاً صحيحاً يتصور الصواب والخطأ، كما يريد فيه وجداناً شاعراً يتذوق الجمال والقبح، وإرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق، وقد تحدث الإمام عن أركان “البيعة” وهي تعبير عن التعهد للعمل بصدق وإخلاص لتحقيق أهداف الجماعة، والجهاد والتضحية في سبيلها، والثبات عليها، فجعل أول هذه الأركان “الفهم”، وهي كلمة أدق وأعمق من مجرد كلمة “العلم”، وأراد بـ “الفهم” أن يوقن الأخ المسلم أن فكرته “إسلامية صميمة”، وأن يفهم الإسلام كما يفهمه الإخوان، سعياً إلى “وحدة الفهم العقل المشترك”، وأن يفهم الإسلام في حدود “الأصول العشرين” الموجزة كل الإيجاز، وهذه الأصول العشرين خلاصة لقراءات واسعة ومطولة في المصادر الإسلامية، وقد قصد بها أن تكون إشارات ومعالم تهدي الأخ المسلم في مفارق الطرقات، وتنير له الدرب في المشتبهات، بحيث ينهج النهج الوسط، فلا يتنطع مع المتنطعين، ولا يتسيب مع المتسيبين، ولا يتخذ المواقف المتشنجة من القضايا ذات الوجهين أو الأوجه، فهو يأخذ من التصوف خير ما فيه، ولكن يرفض ما فيه من بدع، على أن يفرق بين البدعة الأصلية والبدعة الفرعية، وبين البدعة الفعلية والبدعة التركية، وبين المتفق عليه والمختلف فيه.
كما يرفض الشركيات التي قبلها بعض المتصوفة من التمسح بالقبور والطواف حولها والاستعانة بأهلها، وهم لا يملكون لأنفسهم –فما بالك بغيرهم– ضراً ولا نفعاً، قال الأستاذ: “ولا نتأول لهذه الأعمال، سداً للذريعة”، وكذلك رأيناه يقف من المذاهب والمتمذهبين موقفاً عدلاً، فلم يوجب التقليد للمذاهب، كما قال بعض آخر، بل قال: “لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الشريعة أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به أن يتعرف على أدلة إمامه ما استطاع، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر”، وهذا من أعدل ما قيل، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يؤيد هذا، وهو قد رفض القبوريات والشركيات الصريحة، ولكنه لم يحسم القول في قضية التوسل وقال: إنه خلاف في كيفية الدعاء، ما دام المدعو المتوسل إليه هو الله وحده، فهو إذن من مسائل العمل، لا من مسائل الاعتقاد، وهذا فقه صحيح، وقد قال بمثله الإمام محمد بن عبدالوهاب في بعض كتبه.
وكان الأستاذ البنا حريصاً على تثقيف إخوانه بالرسائل والمقالات، كما رصد لذلك “حديث الثلاثاء” من كل أسبوع، يتناول فيه غالباً حلقة من سلسلة، مثل: نظرات في كتاب الله، نظرات في السُّنة أو في السيرة، أو في التزكية وإصلاح القلوب.. أو غيرها.
ويجيب عن أسئلة السائلين؛ بما يزيح الشبهات، ويصحح المفاهيم، كما كانت مجلة الإخوان الأسبوعية، ثم الجريدة اليومية بعد ذلك، تحمل زاداً أولياً للتثقيف المطلوب، وفي المنهاج التربوي للإخوان حد أدنى يجب تحصيله، ثم يجب على كل أخ أن يثقف ذاته ما استطاع، وأن ينهل من العلم بقدر ما يتسع له واديه، وفي الفترة الأخيرة من حياة الإمام الشهيد شعر بأن الإخوان يحتاجون إلى ثقافة أكثر تركيزاً وعمقاً، مما تعرضه الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية، أو الرسائل الإخوانية، فعمل على إنشاء مجلة “الشهاب” لتسد هذا الفراغ، وبالفعل كانت مجلة علمية رصينة، وكان يرجو لها أن تخلف مجلة “المنار” الشهيرة، التي كان يصدرها العلاَّمة رشيد رضا رحمه الله، كان الأستاذ البنا يحرر معظم أبوابها، فكان يكتب في التفسير، وفي العقائد “الله”، وفي “أصول الإسلام كنظام اجتماعي”، وفي “الرواية والإسناد” في أصول الحديث ومصطلحه وفي التاريخ الإسلامي.
وكان يكتب فيها كبار العلماء والمتخصصين، أمثال الشهيد عبدالقادر عودة، والأستاذ مصطفى الزرقا، وغيرهما.
وللأسف لم يصدر منها غير خمسة أعداد، ثم كان قدر الله بحل الإخوان، واستشهاد الأستاذ رحمه الله.
وأحسب أن لو قدر الله تعالى وامتد به العمر وواتاه التوفيق، لترك للإخوان ميراثاً كبيراً في جوانب الثقافة الإسلامية.
2- الإيقاظ الروحي:
والعنصر الثاني في “التكوين الإخواني” هو “الإيقاظ الروحي” الذي يعنى بتجديد الإيمان بالله تعالى، واليقين بالآخرة، وتقوية المعاني الربانية في القلب، من التوكل على الله، والإنابة إليه، والإخلاص له، والمحبة له ولأوليائه، والأنس بذكره، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والاعتزاز بالانتماء إليه، والثقة بنصره وتأييده، والحياء معه والشعور برقابته، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، وحسن الأدب معه، واستشعار تقواه في كل عمل وكل حال، إلى آخر ما يعنى به رجال التصوف الصادقون، والوصول إلى هذا ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى رياضة مستمرة، ومجاهدة طويلة، لهذه النفس الأمارة بالسوء، وتصميم على تزكية النفس بالتخلية والتحلية؛ التخلية من رذائل الشرك والنفاق والجاهلية، والتحلية بفضائل التوحيد والإيمان والإسلام والإحسان، وهذا هو أساس الفلاح في الأولى والآخرة؛ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس).
ولا يتم هذا إلا في مناخ يساعد عليه، يجد فيه المرء المرشد والموجه إلى الله، والبيئة النظيفة المعينة على الخير، كما يجد الأخ الصالح، الرقيق في الدرب، حامل مسك الهدى، الذي يدل على الله منطقه، ويذكر بالآخرة حاله، ويرغب في الخير سلوكه، وهذا ما حرص عليه الإمام البنا؛ قولاً وفعلاً، نظراً وتطبيقاً.
أهمية الجانب النفسي (الروحي) والخلقي
عرف الأستاذ البنا تاريخ الأمم والنهضات وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءته للتاريخ أن نهضات الأمم ورسالات الأنبياء ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء، الذين يعتبرون بمثابة البناة والحراس، كما قال تعالى لرسوله: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 62)، وعرف الأستاذ البنا أن بناء هؤلاء الرجال هو أهم ما ينبغي أن يعنى به المصلحون، وأن له الأولوية على ما سواه.
ومن قرأ للأستاذ البنا أو استمع إلى محاضراته ودروسه وجده يؤكد هذه المعاني، ويكررها، ويعرض لها بأكثر من أسلوب في أكثر من مناسبة؛ دلالة على وضوحها في ذهنه، وعمقها في نفسه، وأهميتها عنده.
وكل من قاد الإخوان بعد البنا مضى في هذا الطريق، وأكد هذه المعاني، وحسبي أن أذكر هنا قول المرشد الثاني حسن الهضيبي: “أقيموا دولة الإسلام في صدوركم، تقم على أرضكم”، وما أبلغها من كلمة.
من أين نبدأ؟
يقول حسن البنا في رسالة “إلى أي شيء ندعو الناس” تحت عنوان “من أين نبدأ”: إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى “قوة نفسية عظيمة” تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره، على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: (إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس: 36)، هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسُنته في خلقه، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
وهو أيضاً القانون الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”، أو لست تراه قد بيَّن أن سبب ضعف الأمم وذلة الشعوب وهن نفوسها، وضعف قلوبها، وخلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة، وصفات الرجولة الصحيحة، وإن كثر عددها، وزادت خيراتها وثمراتها.
وإن الأمة إذا رتعت في النعيم، وأنست بالترف، وغرقت في أعراض المادة، وافتتنت بزهرة الحياة الدنيا، ونسيت احتمال الشدائد، ومقارعة الخطوب والمجاهدة في سبيل الحق؛ فقل على عزتها وآمالها العفاء، يظن كثير من الناس أن الشرق تعوزه القوة المادية؛ من المال والعتاد وآلات الحرب والكفاح، لينهض ويسبق الأمم التي سلبت حقه، وهضمت أهله، ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم القوة الروحية؛ من الخلق الفاضل، والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق ومعرفتها، والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون القوة، لو أمن الشرق بحقه، وغيَّر من نفسه، واعتنى بقوة الروح، وعنى بتقويم الأخلاق، لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب، وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
يعتقد الإخوان المسلمون هذا تمام الاعتقاد، وهم لهذا دائبون في تطهير أرواحهم وتقوية نفوسهم، وتقويم أخلاقهم، وهم لهذا يجاهدون بدعوتهم، ويريدون الناس في مبادئهم، ويطالبون الأمة بإصلاح النفوس وتقويم الأخلاق، وهم لم يبتدعوا ذلك ابتداعاً، شأنهم في كل ما يقولون، ولكنهم يستمدون من القاموس الأعظم، والبحر الخضم، والدستور المحكم، والمرجع الأعلى، ذلك هو كتاب الله تبارك وتعالى، وقد سمعت من قبل تلك المادة الخالدة من ذلك القانون: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
ويستشهد الإمام البنا لصحة فكرته هذه بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وما ربى عليه أصحابه، وما قذف في قلوبهم من معان ومشاعر؛ ميَّزتهم عن الناس، وحلَّقت بهم في آفاق عليا.
ماذا صنع النبي الكريم مع أصحابه؟
لقد قذف في قلوبهم –أول ما قذف– أن ما جاء به هو الحق، وأن ما عداه هو الباطل، وأن رسالته خير الرسالات، وأن نهجه أفضل المناهج، وأن شريعته تتضمن أعدل الأحكام وأكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعنى ثباتاً في النفس، وتمكناً في القلب؛ فآمنوا بهذا واعتقدوه، وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بأيديهم هدي السماء لإرشاد الأرض؛ فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس، وأن يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه يحنو عليه ويرشده ويقوّمه ويسدده ويقوده إلى الخير، ويهديه سواء السبيل، وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه؛ فإن الله معهم؛ يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم، ويمدهم إذا تخلى عنهم الناس، ويدافع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانوا، وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء.
أثر اليقظة الروحية في التغيير
كان حسن البنا شديد الإيمان بأن التغيير النفسي والروحي هو أساس كل تغيير وإصلاح، وأن على الدعاة والمصلحين أن يبذلوا جهدهم الفكري والدعوي والعملي؛ لإيقاظ الأرواح، وإحياء القلوب، وتنبيه الضمائر، وتحريك المشاعر، وتجديد الإيمان، وأن ذلك سيعمل عمله، ويؤتي أكله حسب سُنة الله في الخلق، فهذه اليقظة الروحية هي “المفتاح” لقفل البشرية.
3- الترابط الأخوي:
والعنصر الثالث من عناصر “التكوين” الأساسية لدى الإخوان هو الترابط الأخوي.
فقد عنى حسن البنا بهذا العنصر منذ تأسيس الجماعة، بل أن الاسم الذي اختاره لهذه الجماعة، يتضمن هذا المعنى بوضوح، فهو يضم معنيين كبيرين؛ الإسلام والأخوة “الإخوان المسلمون”.
وكان البنا يركز على معنى الأخوة، وربطها بالجانب الرباني، بحيث تكون أخوة في الله، ومحبة في الله، فأوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ وكان في أحاديث الثلاثاء في المركز العام للإخوان بالقاهرة يبدأها عادة بإشعال لهيب في هذه العاطفة الإيمانية الجياشة؛ عاطفة الحب في الله، ويذكر الآيات والأحاديث ما يبقي عليها حية دافئة.
مثل قوله تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يقذف في الكفر كما يكره أن يقذف في النار” (متفق عليه عن أنس).
كان حسن البنا حريصاً كل الحرص على أن ترتبط أعضاء جماعته برباط وثيق لا تنفصم عراه، وليس في ذلك أفضل من رابطة “الأخوة الإسلامية”.
فإذا كان الناس تربطهم في هذه الدنيا روابط شتى؛ رابطة الدم والنسب، أو رابطة الطين والأرض، أو رابطة اللغة واللسان، أو رابطة المصلحة المشتركة، أو غير ذلك من الروابط المادية والدنيوية الزائلة، أو المعرضة دوماً للزوال، فإن رابطة الأخوة الإيمانية هي الأخلد والأبقى، وهي الأعز والأقوى، لأنها رابطة قامت لله وفي الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله، انقطع وانفصل، لقد كان حسن البنا مؤمناً بضرورة العمل الجماعي لنصرة الدعوة الإسلامية، وتحقيق آمالها الكبرى في النهوض والبناء والترقي، وأداء دورها الرباني في هداية العالم إلى نور الله، بل كان حسن البنا هو الواضع الأول لأسس العمل الجماعي الإسلامي، وأن العمل الفردي –مهما تكن نية أصحابهم وإخلاصهم وتفانيهم– لا يمكنه أن يحقق أهداف الإسلام الكبيرة والبعيدة، ولهذا كانت الأوامر والتوجيهات القرآنية والنبوية محرضة على التوحد والتعاضد والتعاون والتضامن.
وما دامت الجماعة –على حد تعبيرنا– فريضة وضرورة؛ فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، فلا بد لهذه الجماعة من رباط قوي يربط بين أفرادها، وهذا الرباط هو الأخوة الصادقة، التي هي صنو الإيمان ودليله، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وكما في الحديث الصحيح: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه (أي لا يتخلى عنه) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته”، ولا تكون الأخوة صادقة إلا إذا تجردت عن أعراض الدنيا وتمحصت للدين، وخلصت لوجه الله تعالى، وهذا هو الحب في الله، الذي كثرت في فضله الأحاديث.
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: “إن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء”، قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: “هم قوم تحابوا بنور الله، من غير أرحام ولا أنساب (أي لا تجمعهم قرابة ولا نسب) وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”، ثم قرأ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62)، وقال رجل لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لله، فقال: الله؟ قال الرجل: قلت: الله، فأخذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: “وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ”، وقد شاعت هذه الأحاديث وأمثالها في جو الإخوان، وحفظوها وتناقلوها، ونبتت في ظلها عواطف فياضة، ومشاعر دفاقة، من مشاعر الحب في الله، والارتباط على دينه، كونت رابطة لا تعدلها ولا تقاربها رابطة، وكما قال الأستاذ سعيد رمضان رحمه الله: “لا رباط أقوى من العقيدة، ولا عقيدة أقوى من الإسلام”، وكان الإمام البنا رضي الله عنه يعتبر هذا الرباط الأخوي المظهر الثاني للقوة المنشودة، بعد قوة العقيدة، وهو قوة الأخوة والوحدة والارتباط، وتأتي بعدها قوة الساعد والسلاح، وكان أخشى ما يخشاه على الإخوان أن تتفرق كلمتهم، وينفرط عقد أخوتهم، وقال لهم مرة: أنا لا أخشى عليكم الإنجليز ولا الأمريكان ولا الروس، ولا غيرهم من طغاة الغرب أو الشرق، ولكني أخشى عليكم حقاً من أمرين اثنين؛ أولهما: أن تعصوا الله تعالى وتفرطوا في جنبه؛ فيتخلى عنكم، ويكلكم إلى أنفسكم، والثاني: أن تتفرقوا فلا تجتمعوا إلا بعد فوات الفرصة، كما قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
وفي “رسالة التعاليم” جعل “الأخوة” أحد أركان البيعة، وقال في شرحها: “وأريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر؛ أي من الحسد والبغضاء والأحقاد، وأعلاه: مرتبة الإيثار؛ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)، والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، “وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”، “والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً”؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71) وهكذا يجب أن نكون”، وهي كلمات مركزة تتضمن معاني كبيرة.
ولم يكتف الأستاذ البنا رحمة الله عليه بهذا البيان والتأكيد، فقد كان من مزايا الرجل أنه يربط العلم بالعمل، والفكر بالحركة، والنظر بالتطبيق.
ومن أجل ذلك أسس “نظام الأسر” وهو نظام فذ، ابتكره الأستاذ، مستفيداً من تجربته الصوفية، ومن قراءاته العلمية، ومن ممارسته العملية، وهدفه أن يرفع مستوى الأخوة لدى الإخوان من الكلام والنظريات إلى الأفعال والعمليات، وجعل الأستاذ لهذا النظام أركاناً ثلاثة:
1- التعارف؛ ويعني به: التعارف والتحاب بين الإخوان بروح الله تعالى، واستشعار معنى الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينهم، والاجتهاد ألا يعكر صفو علاقاتهم شيء، وهذا يقتضي أن يتكاشف أعضاء الأسرة فيما بينهم، وأن يعرف كل منهم ظروف أخيه وحاجاته ومشكلاته، وقدراته وإمكاناته.
2- والتفاهم؛ ويعني به: الاستقامة على منهج الحق، وتنفيذ ما أمر الله به، وإقصاء ما نهى الله عنه، وحساب النفس حساباً وقتياً على الطاعة والمعصية، ولينصح كل أخ أخاه متى رأى فيه عيباً، وليتقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، وليشكر له ذلك، وليحذر الأخ الناصح أن يتغير قلبه على أخيه المنصوح قيد شعرة، وليحذر المنصوح من العناد والتصلب وتغير القلب على أخيه الناصح له ولو بمقدار شعرة، فإن مرتبة الحب في الله هي أعلى المراتب، والنصيحة ركن الدين.
3- والتكافل، هو الركن الثالث؛ ويعني به: أن يحمل الإخوان بعضهم عبء بعض، ويتعهد بعضهم بعضاً بالسؤال والبر، وليبادر إلى مساعدته ما وجد في ذلك سبيلاً.
وأوصى الأستاذ كل أسرة أن يكون لها لقاء أو اجتماع أسبوعي، ورسم لهم ما يشغلون به وقتهم خلال الاجتماع:
أ- من تدارس شؤونهم الخاصة وما يعرض لهم من مشكلات شخصية أو دعوية، والتذاكر حول حلولها، في جو من صدق المودة، وإخلاص التوجه إلى الله، وفي ذلك توطيد للثقة وتوثيق للرابطة “والمؤمن مرآة أخيه”، وبذلك يتحقق التصوير النبوي للمؤمنين أنهم كالجسد الواحد.
ب- ومن ذلك: التذاكر حول شؤون الإسلام، وتلاوة الرسائل والتوجيهات الواردة من القيادة، ولا محل في الأسرة للجدل أو الخصومة أو الحدة ورفع الصوت، قال الأستاذ: “فذلك حرام في فقه الأسرة”، ولكن بيان واستيضاح في حدود الأدب والتقدير المتداول من الجميع.
جـ- المدارسة النافعة في كتاب من الكتب القيمة، أو أكثر من كتاب.
ثم رسم الأستاذ بعد ذلك مناهج عملية من الرحلات الثقافية والرياضية والجبلية، وصيام يوم في الأسبوع، وصلاة الفجر جماعة، على الأقل مرة في يوم معين كل أسبوع.
وقد طوَّر الإخوان نظام الأسرة ووضعوا مناهج تربوية متكاملة، لا تزال تتطور وتتجدد. وقد كان لهذه الروح، وهذه المفاهيم وهذه الأنظمة أثرها في الإخوان حتى ضرب بهم المثل في قوة التآلف والترابط، حتى قال أحد الصحفيين يوماً في مصر: هذه الجماعة التي إذا عطس أحدهم في الإسكندرية قال له من في أسوان: يرحمك الله! (وبين المدينتين أكثر من 1200 كيلومتر).