في الحلقة السابقة، تابعنا إشارات الشيخ الغزالي وحديثه عن الجماعات والجمعيات، وهنا سنتابع إشاراته إلى عدد من علماء عصره، بكلمات -قلت أو كثرت- لكنها ذات دلالات تستحق أن تسلط عليها الأضواء.
لقد تحدث عن إمامه وشيخه حسن البنا حديثاً مطولاً، سبقت الإشارة إلى طرف منه في هذا التقديم، وتحدث كذلك عن:
الشهيد سيد قطب (1324 – 1386هـ/ 1906 – 1966م):
ولقد كان سيد قطب -وهو واحد من رواد الدعوة إلى العدالة الاجتماعية- أول من جذب الأنظار إلى كتاب الشيخ الغزالي «الإسلام والأوضاع الاقتصادية»، وكتب عنه أكثر من صفحة في صحيفة «الجمهور المصري»، وأشار سيد قطب -كما يقول الشيخ الغزالي- إلى «أن هذا الكتاب قد قال الكلمة الأخيرة في الجانب الاقتصادي، ويشبه كتاب عبدالرحمن عزام (1311 – 1396هـ/ 1893 – 1976م) «الرسالة الخالدة.. عن الإسلام».
ويضيف الشيخ الغزالي معلقاً فيقول: «لم أجد من كتب عني بحفاوة، وقدمني للقراء بإخلاص إلا الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه..».
ولقد ذهب الشيخ الغزالي إلى قطب شاكراً، وبدأت العلاقة بين الرجلين منذ ذلك التاريخ عام 1947م.
ولقد دعا الشيخ الغزالي، قطب إلى الانخراط في جماعة الإخوان، ويوثق الشيخ الغزالي هذا الأمر يقول: «في عام 1950م تقريباً، وكنت صديقاً للأستاذ الكبير سيد قطب، رحمه الله، عرضت عليه أن ينضم إلى جماعة الإخوان، فقال لي: الأفضل أن أكون بعيداً».
نقد الحاكمية:
ولم يمنع تقدير الغزالي لقطب، الذي يصفه «بالأستاذ الكبير»، لم يمنع ذلك من نقد الغزالي لما كتبه قطب عن «الحاكمية»، وما ترتب عليها من الحكم على المجتمعات الإسلامية بالجاهلية، لقد انتقد الشيخ الغزالي هذه المقولة فقال: «فكرة الحاكمية لم أسمع بها إلا بعد موت حسن البنا، الذي كان في فكره أشبه بعلماء الأزهر، عندما يصورون فكرة الحاكمية يتكلمون بعقل وبدقة منطقية، وأكاد أقول: إن الإسلام الذي يدرس في الأزهر من أدق المدارس لتصوير الإسلام، فالحاكمية كلمة دخيلة، فإذا كان لا حكم إلا لله فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ لكن العلاقة بين الحاكم والشعب وبين الحاكم والأمة، وما هو مصدر الحكم، هذا مفهوم من الإسلام أساساً، فالحاكم يأخذ من القرآن والسُّنة ومن الأدلة الأخرى، مثل: الاستحسان والاستصحاب والاستصلاح، فهي أدق ما يقال في هذا الموضوع؛ لكن الحاكمية، بمعنى أنه لا حكم إلا لله، فعندما تتكلم في مسألة الإسلام لم يفت فيها، ليس في القرآن نص ولا في السُّنة نص، لكن القياس يعطي، والمصلحة المرسلة تعطي، والاستحسان يعطي، وما يقوله الأزهر في هذه المسألة هو الأدق، وكون أن الإنسان يشرّع، أنا أشرّع في الفروع التي جاءت، وفي شرح القواعد، ثم أضع الفروع، فمن حقي أن أشرّع دستوراً.
القاعدة عندي الشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى: 38)، لكن كيف أنظم هذه القاعدة؟! أقول الحكم لله، وأنا أضع القاعدة، أقول: إن الأمة مصدر السلطات، والحاكم عليه أن يجري انتخابات، هذه تشريعات العقل البشري، فيها أساس، تعتمد على القاعدة، وهي حكم الله، وهي الشورى، والفروع متروكة للعقل البشري، متروكة للقياس والاستصلاح والاستحسان.
فالمدرسة الأصولية الإسلامية -أقصد بالأصولية التي تهتم بأصول الفقه- كما شرح هذه الأصول علماء الأصول، بدءاً من الإمام الشافعي (150 – 204هـ/ 767 – 820م) إلى يومنا هذا، وآخر من كتب في الفقه، كتبه الإمام الشاطبي (790هـ/ 1388م) في كتابه «الموافقات»، هؤلاء الناس كتبوا ووسعوا، فهذا هو الحكم الصحيح، إنما المودودي (1321 – 1399هـ/ 1903 – 1979م) عندما تكلم عن الحاكمية، فجاء بعض الناس ونقل هذا إلينا دون أن يعرف الملابسات التي أحاطت بالكلمة هناك.
أنا عندي: الإسلام دين الدولة، إذاً أرجع إلى نصوصه وإلى تطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى فقه رجاله، فالأصول الفقهية عندنا ثروة أصلية، ويجب أن يؤخذ الفقه من علمائه ومن أئمته، وأنا لا أستطيع أن أقول: إن الإمام أبا حنيفة (80 – 150هـ/ 699 – 767م) يمثله إمام مسجد في «العتبة الخضراء» يقول: أنا حنفي لأنه قرأ كتاباً في الفقه الحنفي!
أما الحاكمية لله، فهي لله، ماذا تريد بالكلمة؟ لقد قالها من قبلك ناس أرادوا بها اعتراض خليفة راشد -هو علي بن أبي طالب- في أنه قبل بحكم الناس في بعض الأمور، فالله أباح في خلاف الزوجين أن نجيء بحاكم من هنا وحاكم من هنا، فما المانع أن يكون هناك حكمان، يبدي هذا الرأي والرأي الآخر، والحاكمية لله».
ولقد أرجع الشيخ الغزالي خطأ الأستاذ سيد قطب -فيما كتبه عن الحاكمية- إلى سببين:
أولهما: الظلم الذي وقع عليه من قبل نظام ثورة يوليو، الأمر الذي جعله «ينفرد برأي أملته عليه ظروف المحنة التي وقع فيها، فالأستاذ سيد له ابن أخت سُجن ظلماً وعدواناً، ثم إنه رأى في السجن بلاء كثيراً، والواقع أن محاكمته كانت مهزلة، فالرجل كتب كتابة فيها حدة وعنف ضد الحكام، وتأول آيات القرآن على أنه لا بد من اشتباك صريح مع هؤلاء، وهذا ليس من الممكن».
والسبب الثاني: «للخطأ في تكفير الأستاذ سيد، أن الرجل من الناحية الفقهية كان ضحلاً، ليس متعمقاً أو جامعاً لما لا بد منه من الأحكام الفقهية، ولذلك يقول كلاماً يستحيل أن يقبله الفقهاء، مثل «اجعلوا بيوتكم قبلة لتكن مساجد وصلوا فيها»، هذا كلام لا يمكن أن يكون مقبولاً؛ والسبب في ذلك أنه غلبت عليه عاطفة اعتزال المجتمع، وضرب الحاكم.
لكن الأستاذ سيد، رحمه الله، كان ألمع واحد في مدرسة العقاد، وعلمه بالأدب الإسلامي والأدب العربي عموماً علم جيد.
ولقد تبعه من يسمون أنفسهم قطبيين، وهؤلاء لا عقل لهم ولا فقه، ولا يُنظر لهم في شيء..»([2]).
هكذا تحدث الشيخ الغزالي، في محاوراته، عن الشهيد سيد قطب، محاولاً الفصل في القضية التي لا تزال مثارة حتى الآن، قضية «الجملة المعترضة» في مسيرته الفكرية، التي أفرزتها المحنة التي فرضت عليه، يرحمه الله.
الشيخ خالد محمد خالد:
وتحدث الشيخ الغزالي عن صديقه -الذي اختلف معه حول علاقة الإسلام بالدولة والحكم- الشيخ خالد محمد خالد (1339 – 1416هـ/ 1920 – 1996م) فقال: «إلى الآن صلتي بالأستاذ خالد من أوثق الصلات، أساساً أنا أفرق بين الخلاف الفكري العلمي والخلافات الشخصية أو المنفعية، أنا الذي يعنيني الصدق والإخلاص، يوم أجد إنساناً كافراً مخلصاً في كفره ومتشبثاً به، لا بأس منه، وأمشي معه، لأني أجد أن إخلاصه سيهديه يوماً ما إلى الخير، لكن الذي أخافه المرتزقة، الذين يكذبون لأنهم يأخذون ثمناً على الكذب، أهل الهوى، الذي يحقد عليَّ لأنه يجد أني أخذت منه شيئاً وأني حائل دون أن يصل هو إلى شيء، وأما أن تختلف في مسألة علمية لا مانع من الاختلاف.
وخالد وأنا لدينا احترام للحرية، وطلب لها، أحياناً، مع أني متهم بغير هذا، أكون متعصباً جداً لما أعتقد أنه حق، وغيور إذا اقترب منه أحد أقاتل دونه، هو -خالد- على غير هذا، هو طويل البال، وواسع الحيلة، ويستطيع أن يدور مع الناس، أنا لا أملك هذه القدرات، لكنه مخلص وأمين..»([3]).
أمة لن تموت:
هكذا تحدث الشيخ محمد الغزالي، في هذه المحاورات، عن الإسلام، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، وعن أمة الإسلام، وحضارتها وتاريخها، وعن أدواء هذه الأمة وأدويتها، وعن استشراف مستقبل النهضة الإسلامية التي كان أحد علمائها وأعمدتها، وعن التحديات التي تواجه هذه النهضة.
وتحدث عن نسبه الفكري، للأزهر، ولمدرسة الإحياء والتجديد، مدرسة محمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا. كما تحدث بفراسة المؤمن المجاهد عن مستقبل أمة الإسلام، فقال: «إن الله سبحانه وتعالى رأى أن هذه الأمة هي الأمة الأخيرة في قافلة البشرية، وأنها إذا مرضت تصح ولا تموت، وإذا تفككت توحدت، وإذا جارت عليها أيام حيناً من الدهر أنصفتها أيام أخرى، ورُدّت إليها حياتها ورسالتها. هذه الأمة تتجدد ولا تتبدد، ومن أين يأتيها التجديد؟ من الشعب، من جماهير الشعب في أعماق القرى، في أماكن مجهولة من أرض الله يولد من يعمل للإسلام»([4]). أبو حامد الغزالي: وإذا كان الشيخ الغزالي، وهو فيلسوف الدعوة الإسلامية، قد رفع مقام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الفلسفة على مقام سقراط (470 – 399ق.م)، وأرسطو (384 – 322ق.م). وهو محق تماماً عندما يقارن بين الفلسفة الإيمانية والفلسفة الوثنية، فإننا لا نبالغ إذا قلنا: إن «محاورات الغزالي» التي تقدم بين يديها هي الأرفع والأنفع إذا ما قورنت بـ«محاورات أفلاطون»، فلقد كانت محاورات أفلاطون (427 – 347ق.م) مجموعة من المثل والمثاليات، والأحلام التي عزت على التطبيق عبر مراحل التاريخ، بينما جاءت «محاورات الغزالي» معبرة عن «المثل الإسلامية» التي تجسدت في أرض الواقع حضارة ومدنية وثقافة أنارت الدنيا، وجعلت المسلمين العالم الأول على ظهر هذا الكوكب لأكثر من عشرة قرون. نعم، لقد رفع الشيخ الغزالي فلسفة الإسلام على فلسفة سقراط وأرسطو، ورفع الفقه الإسلامي على الفقه الروماني «الذي يشبه أكوام السباخ بالنسبة إلى جبال الهملايا التي تمثل الفقه الإسلامي». وقطع بأن في الإسلام نظريات اقتصادية لو عرفتها أوروبا لطلقت كارل ماركس وداست عليه بالنعال». وإذا كان عبيد اليونان الذين يتعبدون بالأساطير الإغريقية سيسخرون من هذا الذي قاله شيخنا الجليل، فإننا نقول لهم ما قاله نبي الله نوح عليه السلام لكفار قومه: (قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) (هود: 38)، لقد كتبت مجلة «التحديات» (Challenges) الفرنسية عام 2008م؛ أي بعد أكثر من عشر سنوات على وفاة الشيخ الغزالي، وهي تبحث عن حل لأزمة الرأسمالية الغربية، فقالت: «إنه يجب علينا قراءة القرآن بدل نصوص البابوية، ولو طبق رجال البنوك الشريعة الإسلامية، فإننا لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه»([5]). وصدق الله العظيم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، لقد تطلع العالم، قبل أربعة عشر قرناً، إلى «نبي قد أطل زمانه»، واليوم يتطلع العقلاء في مختلف البلاد إلى هدي خير العباد، فقط علينا أن نفقه ونعرف قيمة الكنوز التي أنعم الله بها علينا، التي أورثنا إياها سلفنا الصالح، وأن نحمل نورها وخيرها إلى العالمين. وحول هذه الحقيقة وهذه الرسالة كانت «محاورات الشيخ الغزالي»، عليه رحمة الله.
العدد (2018)، 27 شوال 1433هـ/ 14 سبتمبر 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م، ص 55، 189، 146، 147، 148، 140، 142.
([5]) أكرم بلقعيد “عودة البنوك الإسلامية” ملحق «لوموند ديبلوماتيك» النسخة العربية – صحيفة «الأخبار» المصرية في 7/11/2008م.